خاص العهد
أدوية لبنان: "إي في أمل"
لطيفة الحسيني
الى مستوياتٍ عالمية، ترتقي اليوم صناعة الأدوية في لبنان. لضغطِ الأزمة مُساهمتها في الاستناد الى الإنتاج المحلي من العلاجات الطبية. أهل الاختصاص يُصرّون على أنه لم يكن يومًا سوى أمن يُوفّر على الدولة الكثير ويُغنيها عن أطنان من الاستيراد.
غيابُ التخطيط الطويل الأمد على مرّ السنوات كان حاضرًا في سياسات الدولة. أبرز القطاعات التي لم تلقَ اهتمامًا مُستحقًا كانت الأدوية. بمعزل عن الأسباب المباشرة وغيرها، الحاجة الى بديل وطني فرضت الصناعة كملجأ ضروري ولازم، فكيف في بلدٍ مليء بالمحن والديون والأعباء والمصائب؟
أرقامٌ مُبشّرة تنقلها رئيسة نقابة مصانع الأدوية في لبنان كارول أبي كرم، ترسم صورة تدعو للتفاؤل في خضمّ الضائقة الاقتصادية الراهنة.
1200 دواء يُصنّع اليوم بشكل كامل في لبنان، وهو إنتاج يدخل ضمن الشريحة الموجودة في السوق البالغة حوالي 47 % (ما يقدّر بـ516 مليون دولار)، والصناعة اللبنانية تحتلّ 58% من حجم هذه الشريحة.
وصل حجم الأدوية في السوق اللبناني عام 2020 الى نحو مليار و300 مليون دولار (حجم استهلاك مبني على سعر المبيع من العموم). بناءً على هذه المعطيات، تشير أبي كرم في حديث لـ"العهد" الى أن المصانع الوطنية لديها الطاقة الإنتاجية وكلّ القدرات لتغطية الـ47% من السوق كاملة، أي أنها تستطيع تغطية حجم استهلاك الأدوية بنسبة 100%.
تشرح أبي كرم أن 12 مصنعًا تعمل اليوم في لبنان، لإنتاج أدوية تُعنى بالأمراض المُزمنة (ضغط - قلب -شرايين - سكري - مسالك بولية) وبعض المضادات الحيوية والأدوية (ACUTE) التي تؤخذ في أقلّ من شهر (كأدوية الحساسية والالتهابات والمضادات والرشح والزكام) وأدوية OTC (الأدوية المسموح بصرفها دون وصفة طبية).
من بين المصانع هذه، هناك 3 متخصّصة بصناعة الأمصال والحقن التي تُستعمل في المستشفيات وتغطي 100 % من حاجة السوق، وهذا الإنتاج يُغني عن الاستيراد، بينما 5% فقط من الصناعة الدوائية موضّبة في لبنان والباقي مصنّع تصنيعًا كاملًا.
وعلى الرغم من أن إنتاج لقاحات الأطفال غائبٌ عن اختصاصات المصانع في ظلّ الاستعاضة عنها بالاستيراد، إلّا أن هناك تقدّمًا موازيًا برز في الآونة الأخيرة مع بدء المعامل المحلية تغطية أدوية الأمراض السرطانية وأدوية الـbiosimilar (أدوية حيوية)، بحسب ما تؤكد أبي كرم.
وإذ تتحدّث النقيبة عن جهود تُبذل باستمرار من أجل توسيع المحفظة الدوائية وتغطية أكبر عدد من المُستحضرات، لتأمين البديل للمواطن اللبناني وتخفيض حجم الدعم من قبل المصرف المركزي، تلفت الى مصاعب وتحديات تواجه هذا القطاع لعلّ أوّلها عدم وجود تخطيط مُسبق بين المصانع والدولة لتحديد حاجة البلد الأساسية وإعطاء الصناعة كلّ المقوّمات والدعم.
وفق أبي كرم، المطلوب اليوم سياسة طويلة الأمد، فعلى سبيل المثال لا نستطيع اليوم البدء بتصنيع لقاحات أطفال وفجأة يدخل دواء مستورد الى السوق فيضرب كل الصناعة المحلية والاستثمار الوطني. غير أن الصورة ليست بهذا السوء، فاليوم يجري العمل على وضع خطط متوسّطة الأمد وطويلة الأمد في الوزارات المعنية ( الصحة والصناعة)، حتى نكون كصناعيين البديل والمساهم الأول في الأمن الدوائي.
اعتماد كلّي على مصانع لبنان خلال أزمة "كورونا"
الإنجاز الأهمّ لمصانع الأدوية في لبنان توجزه أبي كرم بالتالي: "مع بدء أزمة "كورونا" ومنذ سنتيْن الى اليوم، الصناعة اللبنانية الوحيدة كانت تؤمّن حاجة الأسواق المحلية لأدوية "كورونا" الأساسية المستخدمة داخل المستشفى أو في البيوت مع غياب كامل للأدوية المُستوردة، وهذا ما قلّل نسبة الدخول الى المستشفيات في المرحلة الماضية خاصة لجهة تأمين الأدوية التي تؤخذ قبل الانتقال الى غرف العناية ولا سيّما المضادات الحيوية وأدوية الالتهابات".
ولأنّ الطلب على الصناعة الدوائية المحلية ارتفع، تُبيّن أبي كرم أن المعامل المحلية خلال عام 2020 ومقارنة بعام 2019 طرحت في السوق أدوية بنسبة زيادة وصلت الى 62% كحجم استهلاك وعدد عبوات بمعزل عما اذا كانت تُشترى للتخزين او للاستهلاك الفعلي، وتجزم بأن الصيدليات تعمل اليوم لأن هناك صناعة دوائية لبنانية. وهنا توضح أن حجم دعم الصناعة المحلية لم يتجاوز الـ70 مليون دولار، وتقول "إننا نُغطّي السوق اللبناني دون أيّ انقطاع على مدار الساعة".
أسواق التصدير
هل خرق الدواء اللبناني الدول المجاورة؟ تُجيب أبي كرم أن "التصدير اليوم خجول بسبب سياسات الدول التي تحمي صناعاتها المحلية، وهو يقتصر على أسواق محدّدة مثل الخليج وإفريقيا وقبرص ومالطا"، وتستطرد "مرحلة التصدير تحتاج في الأصل الى تسجيل الدواء، ففي لبنان يتطلّب تسجيل الدواء المستورد سنة، أمّا الدواء المحلي ليُسجّل في دول المنطقة فيستغرق ما لا يقلّ عن سنتيْن وثلاث وهذا إن حصل فعليًا. الدول المجاورة تتّبع آلية لحماية صناعاتها الدوائية، ولذلك تفرض عوائق تقنية تمنع تسجيل الدواء اللبناني تحت حجج عدّة بينها: لا حاجة لهذا الدواء، الأمر يتطلّب أوراقًا تأخذ وقتًا، وضع أسعار متدنية تدفع الى الاستغناء في النهاية عن خيار التصدير".
مصرف لبنان والمعاناة معه
الى جانب معضلة الانتشار الخارجي، تلفت أبي كرم الى صعوبة أخرى، فالمورّدون اليوم يطلبون دفعًا مسبقًا حماية لهم، والسياسة التي يتّبعها مصرف لبنان تجعلنا ننتظر ستة أشهر وأكثر لإعطائنا الأموال. وهذه معاناة بحدّ ذاتها، وتضيف "لدينا مدفوعات متوقّفة في مصرف لبنان منذ سنة تقريبًا، وهذا ما يخنُقنا، مع العلم أن الصناعة هي التي تلبّي السوق اليوم. لا جدولة تُحدّد متى ستُدفع مستحقاتنا وكيف وماذا عن المبالغ الجديدة". وتستطرد "وزارة الصحة وضعت آلية للموافقة على الفواتير ضمن مبلغ مُعيّن يُعطيها إيّاه مصرف لبنان، وهي توافق على إدخال المواد الأولية، لكن الرقم محدود جدًا بالنسبة لنا، ومطلوبٌ منّا تغطية أكبر، ما يحمّلنا أعباءً إضافية".
أسعار الأدوية اللبنانية هل هي فعلًا أدنى من تلك المستوردة؟ تؤكد النقيبة أنها أقلّ بـ30% من دواء الـBRAND كسعرٍ متوسطي، فيما هناك أصناف أقلّ بـ 50 و60%، وبالنسبة لأدوية الجنيريك المستوردة أسعار الوطنية أقلّ منها بما بين 20% و25% بناءً على الآلية الموضوعة بالتعاون مع وزارة الصحة.
شركة "فارملاين": الإنتاج المحلي مُبشّر
الوضع يستدعي اذًا مُعاينة على الأرض. جولةٌ ميدانية داخل شركة "فارملاين" (Pharmaline) تفي بالغرض. بالقرب من نهر ابراهيم، تقع الشركة العملاقة. الدخول إليها أشبه بالرحلة، غير أنها مُمتعة. عالمٌ مغاير تمامًا بمنأى عن كلّ مصائب لبنان.
التنقّل بين أروقتها من المخزن الى غرف التصنيع ثمّ التغليف والتوضيب مُبهر. النظام واضح هناك، كلّ شي يخضع للتعقيم، وأزياء مخصّصة للعمال والموظفين. لا وجود لجدران اسمنتية بل أخرى من نوع لا يؤثّر في جودة الموادّ التي تدخل في عملية التصنيع. الزوايا الحادّة غير مرئية حتى يسهل التطهير، أمّا الأبواب الضاغطة فتلحظ موضوع اتجاه الهواء كي لا تتسرّب أيّة جراثيم الى الآلات. اللافت في هندسة المبنى ككلّ، أن العمّال لا يتشاركون المدخل والمخرج في آنٍ معًا، ولا سيّما أولئك الذين يقومون مباشرة بالتصنيع، أمّا عوامل الحرارة والرطوبة فتحت المراقبة التقنية 24/24.
الشركة تُنتج حوالي 80 صنفًا من الأدوية المتخصّصة بأمراض الضغط والسكري والكوليسترول وصولًا الى فيتامين D. عملها لا يتعلّق بالأمصال أو اللقاحات، بل يرتبط بتصنيع الحبوب والأدوية السائلة والكريمات والـ"جيل".
ينقسم عمل الشركة الى قسميْن:
أوّلًا: التصنيع الكامل للأدوية
ثانيًا: توضيب وتعليب الأدوية التي تأتي على شكل حبوب تحت عنوان الإجازة الممنوحة من قبل مختبرات عالمية مثل Sandoz و Novartis وMERCK وABBOTT.
المُشرفون على عمليات الإنتاج يشرحون آلية العمل في "فارملاين" وفق الآتي:
استلام المواد الأولية من المخزن بناءً على الوصفة،
وزْن المادة التي يجب استخدامها في غرفة معقّمة بالكامل،
الخلط والمزج في آلات مُحدّدة (طبخ الخلطة)،
ضغط المزيج وتحويله الى حبّة دواء،
التغليف الأولي (وضعه ضمن ظرف)
التغليف الثانوي (وضع الظرف ضمن العلبة النهائية)
التوزيع على الصيدلات والمستشفيات.
من يدخل الى عُمق الصناعة المحلية، يُدرك أن الأمل بالكفاءات الوطنية قدرٌ لا يجب الانسلاخ عنه. الأدوية اللبنانية تستطيع المنافسة وكفاية السوق، دون الاعتماد على الخارج، تشجيعًا للطاقات.
تصوير: موسى الحسيني