معركة أولي البأس

خاص العهد

"الليرة مستقرة" الوهم الذي جلب الويلات للنظام النقدي 
30/11/2021

"الليرة مستقرة" الوهم الذي جلب الويلات للنظام النقدي 

د. فاطمة سلامة

في الأدبيات العلمية الاقتصادية لا شيء يحدث تلقائيًا، فلكل نتيجة اقتصادية سبب. والمتأمّل لما وصلت اليه الأوضاع الاقتصادية والمالية والنقدية يلتمس حُكمًا حجم العبث بكل ما يمت للاقتصاد اللبناني بصلة. ولا نبالغ اذا قلنا إنّ علّة العلل في لبنان تكمن في غياب خطّة ورؤية استراتيجية لإصلاح الاقتصاد وتقويته بعيدًا عن تلك الرؤى الموسمية والتي "لا تُسمن أو تغني من جوع".

الأزمة النقدية تعد اليوم نتاجا حتميا لما أسلفناه. جرى التعامل مع هذا الملف بعقلية غريبة عجيبة لم ترتسم بموجبها أزمة فحسب بل عدّة أزمات أوصلت البلد الى ما هو عليه من انهيار ومؤشرات اقتصادية لم تكن على هذه الحالة حتى في أسوأ حقبات لبنان. والمتضرر الأساسي كان للأسف العملة الوطنية التي يجري نعتها بالثروة وفق النظريات الاقتصادية التي تطبقها العديد من الدول، أما في لبنان فقد باتت عمليًا للأسف عملة مهمّشة. 

والجدير ذكره أنّ أزمة النقد وتدهور قيمة العملة الوطنية ليست جديدة في لبنان. عام 1981 كان سعر صرف الدولار ما يقارب الـ4 ليرات ليبلغ في آب 1992 2880 ليرة ما ولّد تضخمًا هائلًا وتحليقا للأسعار، فيما بلغ الحد الأدنى للأجور 64 دولاراً في العام 1992 بعدما كان نحو 242 دولاراً عام 1983. إلا أنّ هذا "التذبذب" الحاصل في قيمة العملة الوطنية وعلى مدى سنوات كثيرة لم يشهد المستوى الذي شهده في السنتين الماضيتين نتيجة السياسة المتّبعة لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة منذ أن تسلّم سدّة الحاكمية عام 1993. على مدى أكثر من عقدين ونصف من الزمن ابتدع سلامة سياسة خاصة في التعامل مع ملف النقد في لبنان ومارس شتّى أنواع التحايل لإثبات قدرته على خفض سعر صرف الدولار مقابل الليرة. طبعًا ليس بالأمر السيئ تعزيز العملة الوطنية لكن تعزيزها على حساب ضرب مقوّمات الاقتصاد الوطني يعني خطيئة كبرى لا بل جريمة. 

ولعلّ أكبر "جريمة" نقدية ارتكبها سلامة كانت في "تثبيت" سعر الصرف، ذلك الوهم الذي بنى عليه سلامة انطلاقته ورؤيته النقدية والذي ندفع بموجبه اليوم أثمانًا باهظة جدًا. وعلى مدى سنوات وسنوات كانت عبارة "الليرة مستقرة" تلازم سلامة كأضخم إنجاز سجّله الرجل في مسيرته العملية. كل ذلك، قبل أن يظهر وجه سياسة سلامة الحقيقية الهشّة القائمة على جملة تدابير أرهقت مالية الدولة وحمّلتها ما لم تقدر على حمله. طبعًا، نحن لا نُهمل هنا دور جزء من السلطة بالتعاون والتنسيق مع سلامة في العبث بكل مقوّمات تعزيز النقد الوطني، لكنّ سلامة لم يتعامل مع قانون "النقد والتسليف" -الذي يحدّد مهمة حاكم البنك المركزي بالحفاظ على العملة الوطنية- كقانون بل تعامل معه كوجهة نظر، ورغم تذرعه الشكلي أحيانًا بأنّه يرفض المس بالقانون إلا أنّه عمليًا فتح على حسابه في كل ملف يخص النقد الوطني.

وقد بلغت  قيمة زيادة سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الليرة اللبنانية اليوم أكثر من 17 ضعفًا عما كانت عليه عام 1997 حين ثبتها سلامة عند سعر صرف 1507.5 ليبلغ عام 2021 26 ألف ليرة. في الشكل نجح سلامة وبقوّة في جعل "الليرة مستقرة" على مدى أكثر من 20 عامًا، لكن في المضمون حملت هذه الخطوة ما حملته من "كوارث" على النظام النقدي والمالي والاقتصادي. نظرية سلامة الاقتصادية التي جعل بموجبها الليرة ثابتة لم تُنفّذ بالمجان. لهذا الثبات أثمان لم يستسغها أهل العلم والاقتصاد الذين انتقدوا نهج سلامة، فتدخلاته المستمرة بسوق القطع لإبقاء سعر الصرف ثابتًا كانت لها تدابير "قاتلة" ومدمّرة للاقتصاد والنقد الوطني.

وفق المنطق الاقتصادي، ليس المهم بث مسكّنات ومهدّئات في سوق القطع للحفاظ على الليرة بشكل آني، لنشهد لاحقًا كل هذا الانهيار الذي حلّ بها. هدف ومهمة أي نظام نقدي هو الحفاظ على استقرار العملة لا ثباتها وقيمتها وقوّتها الشرائية. إلا أنّ سلامة الذي اتبع سياسة الترقيع كيفما كان لم يعمل بروحية النظام النقدي الفعلية بل سلك نهج الفوائد العالية على سندات الخزينة بالليرة والتي وصلت إلى 40 بالمئة يدفعها من رأسمال الناس، أما الفائدة على الدولار فقد تراوحت بين 5 و6 بالمئة ما هيأ الفرصة لاستدانة الدولارات بفوائد منخفضة واستثمارها في سندات الخزينة بالليرة مقابل فوائد خيالية لمراكمة الثروات الهائلة التي أدّت الى زيادة العجز في المالية العامة. 

أيضًا اتّبع سلامة نهج الهندسات المالية التي كانت لكسب الوقت كما جاء على لسان سلامة نفسه، وعوّم بموجبها المصارف، وأمعن في "طبع الليرة" وإصدار التعاميم التي تُجاري سياسته المتبعة وراكم ثروة المصارف التي بلغت ما يقارب الـ22 مليار دولار منذ عام 1993 حتى عام 2018 حتى كانت النتيجة تدميرا ممنهجا للنظام النقدي أُسقط بموجبه لبنان ماليًا، فيما تسبّبت هذه السياسة بمنع الإنتاج عن لبنان.  

وقد رفع سلامة في سبيل تحقيق أهدافه شعارات لإرضاء الناس عبر إقناعهم بأنه يعمل للحفاظ على القدرة الشرائية للدخل الأسري بالليرة مستخدمًا كل أنواع المخالفات التي لا يزال حتى اليوم يستخدمها حيث يتسبب بتراجع العرض في سوق الدولار الحقيقي عبر تحويل الـomt الى محل صيرفة لشراء الدولارات من الناس ومنعها من العرض بسوق الدولار الحقيقي ما يتسبّب في رفع سعر صرف الدولار. 

ولعلّ أكثر ما أطلق يد سلامة في كل ما اقترفه كان في غياب الرقابة على سياسة مصرف لبنان بخلاف دول أخرى تمارس الرقابة على البنك المركزي ولا تسمح لحاكمه بالتمادي، لتكون الإقالة مصير كل من أراد التعنت، فيما تكون مهمة الحاكم الرئيسية توفير السيولة اللازمة للاقتصاد بكلفة اقتراض مناسبة مع المحافظة على التضخم واستقرار النقد لا تثبيته تحفيزًا للنمو الاقتصادي وخلق فرص عمل لا كما يحصل اليوم في لبنان حيث يسجّل التضخم مستويات قياسية بلغت العام الماضي 84.9 بالمئة. 

واللافت في قضيّة سلامة حالة التنكر التي يعيشها حاكم البنك المركزي إزاء كل ما قيل ويقال عن أخطاء فادحة يتحمّل مسؤوليتها. حتى اللحظة ورغم وصول النظام النقدي الى الدرك الأسفل ومعه الاقتصاد، ورغم التهم القضائية التي وجّهت لسلامة من تبييض أموال وفساد وغيره يكابر سلامة ويصنّف نفسه في خانة من جنّب لبنان الويلات لا من جلبها اليه.
 

رياض سلامةمصرف لبنان

إقرأ المزيد في: خاص العهد

التغطية الإخبارية
مقالات مرتبطة