خاص العهد
طلائع الشباب المؤمن.. إننا جندُ الشريعة
لطيفة الحسيني
مسجد الإمام الرضا (ع) في بئر العبد باكورة نشاط الشباب المؤمن. عهدٌ سلفٌ لصيق بالحاضر. مَرْبعُ التمهيد للمقاومين و"مثوى" أبناء الخطّ الخميني. "لفيفٌ" لم ينحرف عنه، بل ثَبُتَ حتى النصر أو الشهادة.
"حفْرُ" ذاكرة الثمانينيات يُحيلنا الى "طائفة" المُؤسّسين. كيف اجتمعت وانطلقت؟ علامَ اتفّقت؟ ما هي خصالها، شيَمها، عقيدتُها؟ وصولًا الى حراك البدايات. الغوص في "الجذور" ينقلنا الى أجواءٍ "مُكتظّة" بطينةٍ مُخلصةٍ بَنَت عِرقَ "الأوائل". هؤلاء اتحدوا صغارًا أصحابَ منطقٍ وهدف وغاية: حفظ الإسلام والأرض.
عنوانُ الأمس بالنسبة لهم كان محدّدًا. الكلّ متناغم ولا شيء يُفرِّق. لذلك لا بدّ من "مقامٍ" يحتويهم، يَنْظُمَهم، يدمجهم ويحْشدُهم تحت راية الإسلام وثورة الحقّ. "بيت الله" المأوى. أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات تاريخُ افتتاح حقبة التحفيز. مفجّر الثورة الاسلامية في إيران الإمام روح الله الخميني كان قد ألْهَم الآلاف، شَجَّعهم على رفض الخضوع لأيّ باطل. الترجمةُ كانت في جامع بئر العبد الذي أُنشئ عام 1978، طبقًا لكلام سماحته: "مساجدكم متاريسكم".
حينها تولّى الراحل السيد محمد حسين فضل الله إمامة المسجد ووعْظ القادمين الى البرنامج اليومي والأسبوعي. من دعاءي التوسّل وكميل الى صلاة الجمعة حتى كلّ المناسبات الدينية. "الأجندة" الاسلامية أخذت تتّسع وصارت عاشوراء فرصةً لاستثمار الانتماء الحسيني في سبيل القضية.
هنا تحوّل اللطم الى اجتماعٍ لـ"القلوب الوالهة". مُبادراتٌ فردية ومتواضعة لطاقاتٍ شبابية أضحت لاحقًا أعيانًا جهادية أصيلة. قد يكون الحاج سامي قليط - أبو حسين - من ألمع الأسماء التي طبعت تلك الفترة. من الإحياءات العاشورائية الى التشييعات والمسيرات، كثافةٌ في النشاط الإسلامي ومُشاطرة لمجهادين ارتقوا شهداء فيما بعد وما بدّلوا تبديلًا.
الإبحار نحو قديم اللطم. قُبيل الانطلاقة الرسمية لحزب الله عام 1982، كان هناك توجّه فني في مسجد الإمام الرضا (ع)، أحد ركائز العمل الاسلامي في تلك المرحلة بسبب نشاط وحيوية إمامه السيد محمد حسين فضل الله. عملت لجنة المسجد على وضع برنامج ثقافي يُعنى بالشباب الصغار عمرًا، يتوزّع بين الديني والترفيهي. نادي التوحيد الرياضي كان شبه الوحيد في هذه الفترة، يُقيم المباريات ثمّ ينضمّ لاعبوه الى حلقات اللطم في الشوراع والأحياء والمسيرات والجامع، لتولد فرقة التوحيد الإسلامية للأناشيد.
يستحضر أبو حسين قليط المرحلة. في الأصل لم تغب عنه. شريط الذكريات يمرّ ببطء أمامه. يقول إن عددًا كبيرًا من الشهداء كانوا نتاج هذه الحقبة، كالشهداء الثلاثة من آل حدرج (محمد ويوسف وحسن)، والشهداء علي حرب وحسين سمور ومحمد هاشم وآخرين ممّن ارتقوا على محاور الضاحية أو على جبهة الجنوب.
الزهد كان سمّة كلّ شيء. حتى الشعراء كانوا غائبين كليًا عن المشهد. لا قصائد كاملة للطميات، ونقصٌ في المادة الشعرية، والبديل شعارات حسينية تراثية وأخرى عراقية، الى أن بادر السيد محمد حسين فضل الله لتأمين شعراء ينظمون ما يليق بالشعر الحسيني. شيئًا فشيئًا، تغيّر الوضع "الصعب"، وغطّت الفرقة التي أنشئت هذا الفراغ، وفي صدارة إحياءاتها المولد النبوي الشريف وانتصار الثورة الاسلامية في إيران، وشهادة السيد محمد باقر الصدر.
مع مجيء الحرس الثوري الإيراني دعمًا للعمل المقاوم عام 1982، دخل الأسلوب الإيراني الى اللطميات والمجالس الحسينية، ولا سيّما أن غالبية الشباب المؤمن التحق بالتدريبات في البقاع، وصادف أن شهر محرم كان قد حلّ، ما شكّل فرصة لأداء اللطميات. ولعلّ من أشهر ما كان يُرددّ "كلّ يوم عاشوراء كلّ أرض كربلاء"، "ناصرًا ينصرني لبيك يا ثار الله (مُسجّلة بصوت الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله).
فرضت الأوضاع السياسية والأمنية نفسها على الساحة المحلية. اتفاق العار بين لبنان - أمين الجميل- والعدو في 17 أيار 1983، محطة مفصلية وانتقالية في العمل الاسلامي والنضالي. توالت الحركات الرافضة لجرّ البلد نحو "رذيلة" التطبيع، فكان أشهرها الاعتصام في مسجد بئر العبد الذي دعا إليه تجمّع العلماء المسلمين. المشهد تبدّل سريعًا مع إعطاء أمين الجميل أمرًا لبعض الوحدات في الجيش اللبناني التابعة له، بتطويق محيط المسجد، وبعد سجالات أطلق بعض العناصر الموترين النار على المعتصمين، فسقط على إثرها محمد نجدي شهيدًا مع ستة جرحى آخرين فيما اعتُقل عشرات الشبان. في أعقاب هذه المواجهة احتدّت التظاهرات الشعبية، وتصاعدت وتيرة العمليات البطولية ضدّ قوات الاحتلال، في سبيل إلغاء مفاعيل هذا الاتفاق المشؤوم.
أفرزت الأحداث الدامية هذه سيًلا من التنديد، بعضها "استحال" شعرًا، فأبصرت أول قصيدة رسمية النور خلال أسبوع الشهيد نجدي في حسينية الشياح. صَدَحت الكلمات قائلة "إننا جُند الشريعة.. إنها فينا وديعة.. دينُنا كيف نبيعه وله فينا رجاء.. يا إمامي يا حسين". الخطوة دفعت لجنة المسجد الى إدخال اللطمية في البرنامج الرسمي للإحياءات في مراسم مسجد بئر العبد المتتالية والمناسبات الهجرية المتعاقبة. وعليه، باتت كل اللطميات مبنية على قصائد منظومة، جزءٌ كبيرٌ منها كان يُؤدَّى في المجالس الحسينية والمناسبات التي كانت تُحيى في منزل السفير الإيراني الشيخ موسى فخر روحاني على المتحف، ما ساهم آنذاك في انتشارها. "يا شهيدًا لم تزل رغم السنين" تحضر بقوّة، والبعض يراها راسخة في الذاكرة.
وتيرة الأناشيد والندب تتسارع وتتكثّف. أكثر من مجاهد -أصبح شهيدًا- يعتلي المنبر الحسيني ويبدأ اللطم. التفاعل عظيم. يوسف وحسن حدرج، علي حرب وأخوه صالح، حسين سمور، وصولًا الى الشيخ راغب حرب والشيخ حسن بحمد، الكلّ يُشارك. أمّا الشعراء الحاج سعيد عسيلي، الشيخ عبد الإله دبوق، الحاج أبو حسن شمران، الرادود عساكري، فينظمون الأبيات كرمى للإسلام وخطّه.
قد تكون سِمة "طلائع" الشباب الملتزم العمر الصغير والوعي المبكّر والروحية الإيمانية العالية مع البصيرة الفذّة والإخلاص للعقيدة. إنها ميزة فاتحي العهد الأصيل. كلّ ذلك كان مجبولًا بالزهد الحاضر دومًا والبُعد عن الرخاء في خضمّ الظروف الاستثنائية والانقسام الطائفي الحادّ والإرهاب المستمرّ والاعتقالات المتواصلة لكل هذا الحراك. بقدر ما كان الولاء للنهج صلبًا، بقدر ما كانت الغربة طاغية. لا بيئة لبنانية حاضنة للنشاط الإسلامي بل حربٌ علنية، لكن المجاهدين آنذاك ثابروا وتمسّكوا بمبدأ الدعوة لله الذي كانوا يمتلكونه الى جانب استعدادهم الفطري للتضحية والبذل.
عند سؤال أبو حسين قليط عن الرعيل الأول من الشباب المؤمن ورواديد تلك المرحلة، يذهب سريًعا لحِفظ "جميهلم"، فيقول "هؤلاء الفتية صَنَعونا". يوسف حدرج الذي ردّد "الزهراء تُنادينا يا لثارات الحسين"، والسيد حسن الذي صرخ "ناصرًا ينصرني يا لثارات الحسين"، ومن قال "إليك يا خميني ننعي الشهداء.. إليك يا مهدي قدّمنا العزاء"، وذاك الذي نادى "يا خميني إننا جُندٌ لك"، يُدرك حيث هو أنه أوصلنا و"سوّانا" حتى نتابع الطريق دون أن نركع.