خاص العهد
"كارتيل" الدواء..أرباح غير شرعية بقيمة 11 مليار دولار
فاطمة سلامة
قبل أكثر من عامين، قدّمت إيران عرضًا للبنان في ملف الدواء. قال مسؤولون إيرانيون حينها إنهم على استعداد لنقل تقنيات تصنيع الدواء الى لبنان لخفض فاتورة الدواء فيه وذلك على قاعدة "إعطاء لبنان صنارة بدلًا من إعطائه سمكة". لكنّ العرض الإيراني وللأسف لقي المصير نفسه الذي واجهته العديد من العروض المنتجة للبنان. تارةً تسقط هذه العروض بضربات سياسية، وتارة أخرى بضربات تجارية. لا يحلو لأصحاب "الكارتيلات" انقطاع حنفية الذهب بعدما امتهنوا جني أرباح غير شرعية هائلة. فاتورة الدواء أقرب الى الخيال في بلد تسوده الفوضى حيث تتجاوز سنويًا المليار دولار.
والمفارقة أنّه وفيما يتحكّم المستوردون بالسياسة الدوائية في البلد وبعد سنوات طويلة جنوا فيها أرباحًا خيالية يمتنع كارتيل الدواء عن المساهمة ولو بجزء قليل للتخفيف من حدة الأزمة الحالية. المواطنون يُفتّشون عن علبة الدواء "بالسراج والفتيلة" حيث فقدت مئات الأدوية الأساسية من السوق، فيما لا تزال الأرباح الشغل الشاغل لهذا الكارتيل وسط تقاذف المسؤوليات بين فلّان وعلّان.
سكرية: 10 مستوردين كبار يسيطرون على 90 بالمئة من سوق الدواء
رئيس اللقاء الأكاديمي الصحي والهيئة الوطنية الصحية "الصحة حق وكرامة" الدكتور اسماعيل سكرية يلفت في حديث لموقع "العهد" الإخباري الى أنّ مستوردي الأدوية يجب أن يتحملوا جزءًا من هذه الأزمة بعدما حصدوا أرباحًا خيالية. يأسف سكرية كيف يُسمعنا هؤلاء سيمفونية "ترشيد الدواء" خلال الأشهر الماضية والأزمة الموجودة بدل أن يُضحّوا قليلا ويتحملوا قليلًا لقاء المليارات الكبيرة التي جنوها. وبالأرقام، يوضح سكرية أنّه ولغاية عام 2020 ثمّة 172 مستورد للدواء في لبنان يتوزعون بين لبنانيين وأجانب. 10 منهم يسيطرون على 90 بالمئة من السوق. وهنا يذكر سكرّية بعضًا من أسماء هؤلاء العشرة: "مرساكو"، "فتال"، "سادكو"، "فينيسيا"، "أبيلا" و"إنترفارما".
يُجري سكرية حساباته في ما يتعلّق بأرباح مستوردي الدواء انطلاقًا من إلمامه بهذا الملف فيلفت الى أنّ المستوردين جنوا من عام 1997 حتى 2020 نحو 11 مليار دولار كفائض أرباح غير شرعية، وهذا الرقم يضاف بطبيعة الحال الى الأرباح الشرعية. ويوضح سكرية أنّ الفاتورة الدوائية عام 1997 بلغت نحو 362 مليون دولار فيما وصلت عام 2020 الى ملياري دولار.
ثمّة دلائل عدّة -برأي سكرية- توضح بما لا يقبل الشك أنّ هؤلاء المستوردين جنوا أرباحًا مضاعفة. يستشهد سكرية بما جرى في عهد أحد الوزراء الذي عمل على خفض أسعار عدة أصناف من الأدوية لتنخفض الفاتورة بشكل جنوني. على سبيل المثال فإنّ سعر الدواء الذي كان 60 ألفًا أصبح 15 ألفًا، ما يعني أن الأرباح أضعاف مضاعفة. كما يستشهد سكرية بكلام لرئيس الجمهورية الأسبق إميل لحود ذكره في كتابه "لحود يتذكر" يقول فيه: "عندما كنت قائدًا للجيش كان بيدي 15 مليون دولار لشراء أدوية للواء الطبي للجيش، ولكن بفضل الحملة الدوائية التي كان يقودها النائب السابق اسماعيل سكرية والتي تبيّن فيها أن أسعار الأدوية في السوق هي أضعاف، ضغطنا وضغطنا فحصلنا على نفس الأدوية والكمية بـ5 ملايين دولار فقط، فيما تمكنا في الـ10 ملايين دولار المتبقية من بناء مساكن للعسكر". وعليه، يُكرّر سكرية أن المستوردين جنوا من عام 1997 حتى 2020 أرباحًا هائلة.
أول شركة للدواء في لبنان كانت عام 1867
ويؤكّد سكرية أنّ أول شركة للدواء في لبنان كانت عام 1867، بعدها تأسّست شركات عدة في أعوام: 1897، 1927، 1946، 1959. طبعًا، ثمّة شركات أخرى ولكن هذه الشركات الخمسة شكّلت العمود الفقري لكارتيل الدواء -يقول سكرية- الذي يوضح إنّه كان بإمكان الدولة -لو وجدت الإرادة- أن تحل مكان الكارتيل الموجود. كان بإمكان الدولة أن تفتح بابًا لتستورد بعيدًا عن سياسة الاحتكار السائدة. كان بإمكانها أن تفعّل مكتب الدواء في لبنان. وهنا يلفت سكرية الى أنّ نفوذ الكارتيل البالغ جعله يخترق الدولة ووزاراتها ومجلس النواب، ما أدى الى سقوط كل محاولات الإصلاح. وفق سكرية، لطالما سقطت المشاريع الاصلاحية لملف الدواء في مجلس النواب. عام 1960 سقط قانون استيراد الدواء من قبل الدولة في عهد النائب فريد جبران، وفي كانون الأول 1971 عمل وزير الصحة إميل بيطار على خفض سعر الدواء عبر قانون معجل مكرر، لكنّ القانون "طار" بعد تعذر اكتمال النصاب. تمامًا كما سقطت شهادة سعر بلد المنشأ على يد "كارتيل" الدواء. وفي السياق نفسه، واجه العرض الإيراني في ملف الدواء عرقلة سياسية تجارية.
وفي الختام، يرى سكرية أنه ورغم كل الانهيار والخطر الذي بدأ يحيط بالمرضى لم يتوفر المناخ لاتخاذ القرار الوطني التاريخي لوضع حد للمحتكرين عبر قرار فتح باب الاستيراد للمجازين ووضع حد للمحتكرين.
وعليه، متى تستفيق الدولة من سُباتها وتتّخذ القرار الجريء بكسر الاحتكار في ملف أساسي وحيوي خاصةً بعدما بيّنت الأزمة الحالية أنّ "كارتيل" الدواء لا يؤتمن على صحّة المواطنين؟