خاص العهد
بطاقة "تمويلية" بلا تمويل.. فهل تبصر النور؟
فاطمة سلامة
لم يخطئ البنك الدولي حين وضع الأزمة الاقتصادية والمالية في لبنان في خانة أشد ثلاث أزمات على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر. لا يحتاج الواقع المزري الى شهادة دولية، فالأزمات كلها تداعت على رأس هذا البلد دفعة واحدة. المواطن بات يعيش من قلّة الموت. الأزمة لم تعد أزمة محروقات ودواء وخبز وودائع مجهولة المصير وقدرة شرائية معدومة ورواتب بلا قيمة وليرة منهارة و و...بتنا أمام أزمة حياة بكل ما للكلمة من معنى. المواطن "منكوب" في كل الاتجاهات. "النكبة" يتذوقها الفقير كل يوم وأكثر من 60 بالمئة من الشعب اللبناني تقريبًا باتوا تحت خط الفقر.
قد يكون المشهد المأساوي لدى كثر فوق الوصف. أحدهم ربما عاجز عن تأمين قوت يومه وأبسط الحاجات، ومثله كُثر. وأمام كل هذه "القساوة" التي تغلّف المشهد -والتي كان للحصار الاقتصادي الذي شنته أميركا على لبنان اليد الطولى في تدهور الأوضاع- يجري الحديث عن رفع الدعم. لا خلاف على أنّ سياسة الدعم وعلى مدى سنوات وسنوات استنزفت خزينة الدولة. مليارات الدولارات ذهبت لمن لا يستحق، واستفاد منها كبار التجار والمحتكرين. لكن لا خلاف أيضًا على أنّ رفع الدعم دون سياسة بديلة سيزيد مأساة اللبنانيين أضعافًا مضاعفة. وفق حسابات أهل العلم والاختصاص، فإنّ كلفة المعيشة لعائلة مكونة من أربعة أشخاص ستتطلب بين 10 ملايين ليرة و10 ملايين ونصف المليون ليرة شهريًا. ماذا يعني ذلك؟. يعني بالتأكيد اضمحلال الطبقة المتوسطة وانحسار الطبقات الاجتماعية بين فقر مدقع يشكّل الغالبية العظمى، وغنى فاحش يشكّل قلّة قليلة.
بموازاة ذلك، يتردّد منذ أشهر الحديث عن بطاقة "تمويلية" يجري تسويقها على أنّها العلاج لحل الأزمات الناشئة. لكنّ الغوص في تفاصيل هذه البطاقة وحيثياتها يُبيّن أنها لا تزال بمثابة من يضرب سيفه في الهواء ويبيع سمكًا في البحر. تسود "الضبابية" ملف البطاقة، وحتى الساعة لا يعلم المعنيون من أين ستموّل. وحتى ولو مُوّلت واقتصرت على فئات دون أخرى، فما الذي سيسند الفئات غير المستهدفة والتي ستتأثر حكمًا برفع الدعم وتتحوّل ربما من طبقة ميسورة الى فقيرة؟. وهل ستكون قيمتها كافية لالتهام النيران المشتعلة جراء رفع الدعم؟.
الأحمد: نرفض أن تكون البطاقة بالشكل الذي "تتظهّر" فيه في عهدتنا
مدير عام وزارة الشؤون الاجتماعية القاضي عبد الله أحمد يعبّر في حديث لموقع "العهد" الإخباري عن استيائه من الطريقة التي تقدّم بها البطاقة "التمويلية". يرفض فكرة أن تكون هذه البطاقة في المرحلة الحالية والشكل الذي "تتظهّر" فيه في عهدة وزارة الشؤون الاجتماعية. يقول الأحمد صراحةً: "نرفض أن تكون في عهدتنا طالما لا تزال هذه البطاقة غير واضحة وغير مضمونة التمويل وطالما لا تزال نتائج رفع الدعم غير واضحة". يبدو الأحمد واقعيًا، اذ لا يكفي أن ننجز بطاقة "تمويلية" لدعم كل أسرة بقيمة 137 دولارًا. أولًا لا يكفي هذا المبلغ، وثانيًا من غير المعلوم من سيستهدف، ووفقًا لأي آلية. هل احتسب المعنيون ما سيترتّب على رفع الدعم من مضاعفات على أرقام الموازنة على مستوى الاستشفاء ومؤسسات رعاية الأطفال وكبار السن، والإدارة العامة والدولة بشكل عام؟.
أرقام الموازنة ستصبح أضعافًا مضاعفة
وفي حال رفع الدعم، يشدّد الأحمد على أنّ أرقام الموازنة ستصبح أضعافًا مضاعفة. النفقات ستزداد نحو عشر مرات. كيف ستتحمّل وزارة الصحة نفقات الاستشفاء؟ يسأل المتحدّث، ويعطي مثالًا بسيطاً على تضخم النفقات قائلًا: "نحن كوزارة شؤون اجتماعية ندفع عن الطفل اليتيم 6000 ليرة يوميًا بدل رعاية. هذا المبلغ سيزداد عشرات المرات. الأمر ذاته ينطبق على باقي المؤسسات حيث ستتضاعف مصاريف الجيش وآلياته وتكاليف الصيانة، فماذا عن نفقات الضمان الاجتماعي ونظام التقاعد وغيرها الكثير من الأمور؟".
يُقدّم الأحمد هذه المقاربة ليخلُص الى أنّ موضوع البطاقة "التمويلية" يحتاج الى الكثير من الدرس وعليه "تحفظنا" عندما كان هناك نية لأن يكون البرنامج في عهدة وزارة الشؤون الاجتماعية. وهنا يكرّر الأحمد: "طالما ليس هناك ضمانة لتمويل البطاقة وآلية واضحة للجهة التي ستستهدفها لا يمكن تحمل تبعات هذا الأمر". يكرّر الأحمد، كان هناك نية لأن تكون البطاقة في عهدة وزارة الشؤون الاجتماعية لكننا رفضنا.
لإنشاء سجل اجتماعي دقيق
ويشدّد الأحمد على ضرورة إنشاء سجل اجتماعي في لبنان، ولكن الأمر -برأيه- لا يمكن استعجاله، ولا يتم بيوم أو يومين. الفكرة ليست في جمع البيانات بل في دقتها. الدقة كفيلة بأن توصلنا الى تقارير دقيقة لمعالجة المشكلة بشكل صحيح وسريع، وإلا ليس أسهل من إنشاء منصة يملأ عبرها المواطنون المعلومات والتي قد تحتوي على بيانات مغلوطة ما يؤدي الى التضليل.
البطاقة يجب أن تشمل كافة الأسر في لبنان
يُقارب الأحمد ملف البطاقة التمويلية من منظار "العدالة للجميع". برأيه، الناس سواسية وفي حال رفع الدعم سيتأثر كثيرون بذلك، مشددًا على ضرورة تأمين معيشة جيدة للأسرة عبر الوقوف عند حاجاتها من غذاء وبنزين وغير ذلك من المتطلبات اليومية. وعليه، يرى الأحمد أنه لا بد من أن تشمل البطاقة جميع اللبنانيين على مبدأ المساواة مع تحديد دقيق لنسبة الدعم. على سبيل المثال، أن يحدد لكل أسرة ثلاث صفائح من البنزين شهرياً، وعليه من يمتلك سيارة تحتاج مصروفًا كبيرًا من البنزين يشتري ما يزيد عن الثلاث صفائح على أساس غير المدعوم وهلم جرا.
وفي هذا السياق، يوضح الأحمد أنّه طرح فكرة استخدام "لوائح الشطب" لتحديد الأسر المستهدفة لعدة اعتبارات منها أنّ يستفيد من البطاقة من يفوق عمره الـ21 عامًا، ويتم استبعاد المسافر من دائرة الاستفادة وغيرها من الاعتبارات.
مصادر تستبعد أن تبصر البطاقة النور
مقابل ما يقوله الأحمد، تشير مصادر تعمل على خط البطاقة "التمويلية" الى أنّ الملف شائك جدًا والوجهة التي ستُعهد اليها البطاقة غير واضحة حتى الساعة ما اذا كانت وزارة الاقتصاد أو رئاسة الحكومة أو التفتيش المركزي أو غير ذلك. وتسأل المصادر من أين سيؤتى بالتمويل للبطاقة التي ستستهدف حوالى 750 ألف أسرة ما يتطلّب مبلغاً يفوق المليار دولار سنويًا؟. وفق المصادر، فإنّ هذه البطاقة لن تبصر النور. وهنا تعرب المصادر عن خشيتها من أن يسيّس هذا الملف وتسوده الزبائنية ويستغل في الانتخابات النيابية. برأيها، فإنّ قرار رفع الدعم يتطلّب ضخ "دولارات" في السوق لعقلنة ملف البطاقة التمويلية بعد أن ينخفض سعر صرف الدولار.
عكوش: خياران لا ثالث لهما لتمويل البطاقة
لدى سؤال الخبير الاقتصادي الدكتور عماد عكوش عن الخيارات المطروحة أمام الدولة لتمويل البطاقة "التمويلية" يشدّد على أنّ مصرف لبنان لا يملك القدرة لا قانونيًا ولا نقديًا لتمويل البطاقة.
وفي حديث لموقعنا، يوضح عكوش أنّ ثمّة خيارين لتمويل البطاقة لا ثالث لهما:
1- التمويل الخارجي وهذا مستبعد.
2- التمويل الداخلي من خلال الموازنة، وهذا الأمر يتطلّب تعديلات على موازنة عام 2021 الموجودة حاليًا في مجلس النواب. إلا أنّ هذا الخيار يتطلّب استعادتها من قبل الحكومة، وهذا يتطلّب حكومة طبيعية وليست حكومة تصريف أعمال. وللأسف، من غير المعلوم حتى الساعة متى ستتشكّل الحكومة ما يجعل هذا الخيار صعبًا أيضاً.
وفي هذا السياق، يتوقّع عكوش أن نذهب باتجاه تقنين قاس جدًا بكل شيء وليس فقط في المحروقات والدواء وغيرهما. بكل صراحة لا نعرف الى أين ذاهبون ولا نعرف الى أين سنصل، فكان الله في عون الناس يختم عكوش.