خاص العهد
ما دلالات الإتفاق الإستراتيجي بين الصين وإيران؟
فاطمة سلامة
في كلّ مرّة تُفتَح فيها قضية توجّه لبنان شرقاً، ثمّة من ينتفض، يُمانع، يأخذ النوايا إلى غير مكانها. قُدّم للبنان عروض جدية ومهمة من عدّة دول منها إيران والصين. عروض على قاعدة إعطاء لبنان "صنارة" لا سمكة، وعلى قاعدة تحويل لبنان من اقتصاد ريعي إلى منتج. كلّ تلك العروض، قوبلت بالتسييس. في هذا الوطن، ثمّة من يُفضّل الخنوع للغرب على مدّ اليد لأي بلد لا ترضى عنه الولايات المتحدة الأميركية. الأدلّة في هذا الصدد كثيرة. تماماً كما أنّ ثمّة مماطلة غير مفهومة للتّعامل جدياً مع العروضات الآتية من الشرق والبتّ بها لأجل مصلحة لبنان أوّلاً وأخيراً. تشهد على ذلك الرسائل الصينية التي وصلت للحكومة اللّبنانية والعروضات والإستعدادات الصينية للتّعاون بمشاريع بعشرات المليارات من الدولار، إلّا أنّه ولغاية الساعة لا قرار لبناني حاسم.
وفيما يتأخر لبنان عن اللّحاق بركب التّعاون والشراكة القائمة على مبدأ "المنفعة المشتركة" و"رابح-رابح"، عقدت الصين وإيران اتفاقاً استراتيجياً قبل أيام. الإتفاق يأتي محطّة مهمّة لواقع يُثبت فيه الشرق قوته الاقتصادية على الساحة الدولية. فما أهمية هذا الإتفاق الإستراتيجي؟ ما دلالاته؟ ما انعكاساته على الساحة الدولية؟ وإلى أي مدى يمكن للبنان أن يستفيد من الشراكة مع الشرق؟.
جباعي: استفادة استراتيجية للبلدين
الكاتب والخبير الاقتصادي الدكتور محمود جباعي يلفت في حديث لموقع "العهد" الإخباري إلى أنّ الإتّفاقية الإستراتيجية الكبرى التي وُقّعت بين الصين وإيران بقيمة 250 مليار دولار لمرحلة الـ 25 عاماً القادمة تعمل على كافّة القطاعات الاقتصادية والتشغيلية من سكك حديد، كهرباء، طاقة، زراعة، فضلاً عن عدد من الصناعات والمنتجات. وعليه، ثمّة استفادة استراتيجية من الإتفاقية للبلدين من ناحية التشغيل، الإستثمارات والعوائد الناتجة عنها.
بالنسبة لإيران سترفع الإتفاقية من قيمة الناتج المحلي الإيراني. ستزيد من الإستثمارات في القطاعات الاقتصادية، كما ستزيد من فرص العمل وتساهم في دخول العملة الأجنبية إلى إيران ما يُساعد على تحسين سعر صرف العملة المحلية في المستقبل. أمّا في ما يتعلّق بالصين، فإنّ هذه الإتفاقية ستنعكس عليها إيجاباً لناحية تمكّنها من تصريف العديد من منتجاتها، فضلاً عن توظيف العمّال الذين سيشاركون في عملية الإنتاج والإستفادة من مصادر الطاقة الإيرانية في مشاريع الإستثمارات التي تقوم بها بكين.
الإتفاقية استكمال لخطّة "طريق الحرير"
ويُشير جباعي إلى أنّ الإتفاقية تأتي كاستكمال لخطّة "طريق الحرير" التي تعمل عليها الصين. الأخيرة تعمل حالياً على تقسيم هذا الطريق عبر اتّفاقات مستقلّة مع عدّة جهات، إذ سبق أن عقدت اتّفاقية "آسيان" مع الدول العشرة، وكذلك مع اليابان وكورويا الجنوبية ونيوزيلاندا واستراليا وهي دول تتعاطى أصلاً اقتصادياً وسياسياً مع الولايات المتحدة الأميركية، لكنّها عملت على كسر الهيمنة الأميركية بما تقتضيه مصالحها الاقتصادية خاصّة بعد أزمة كورونا، حيث استكملت هذه الدول الإستثمارات مع الصين للإستفادة من الإنتاجية الضّخمة بمئات مليارات الدولارات.
كما يوضح جباعي أنّ أهمية الإتفاقية تأتي إثر اتّفاقية الشراكة بين الصين و"الإتحاد الأوروبي" إذ تستثمر الصين بقيمة 150 مليار دولار في أوروبا، مقابل 110 مليار دولار كاستثمار أوروبي في الصين. الإتحاد الأوروبي قال صراحةً أنّ معظم بنود هذه الإتفاقية كان سبق أن اتّفق بشأنها مع إيران، ولكنّه امتنع بسبب العقوبات الأميركية التي فرضت على طهران. وعليه، أتت الصين لتستكمل هذه الأطر الإستثمارية المربحة جداً في دولة نفطية مهمة كإيران للإستفادة منها والإستمرار بخطّة "طريق الحرير".
الصين المنافس الأول استراتيجياً للولايات المتحدة الأميركية
ويؤكّد جباعي أنّ الصين تسعى لكسر الهيمنة الأميركية الاقتصادية في العالم، وهي بالفعل باتت المنافس الأوّل استراتيجياً للولايات المتحدة الأميركية بما يخصّ الاقتصاد الدولي. بكين فرضت نفسها كلاعب أساسي على الساحة العالمية وأصبحت قوّة استراتيجية موثوق بها من كلّ الجهات العالمية والدولية. دخلت دول كبرى بشراكة مع الصين كألمانيا واسبانيا ودول "آسيان" واليابان وكورويا ما يؤكّد أنّ بكين باتت عبارة عن قوة اقتصادية عظمى تضاهي القوة الأميركية، فيما تمكّنت من كسر الهيمنة الآحادية الأميركية في العالم. كما تمكّنت من فرض شروط جديدة بالتجارة الدولية من خلال برامجها واقتصادياتها المبنية على الإنفتاح في كلّ دول العالم وعلى عقد اتّفاقيات اقتصادية على قاعدة "رابح-رابح" مع جميع الشركاء. هذا الأمر افتقدته الدول مع الولايات المتحدة الأميركية في عهد دونالد ترامب الذي لم يفكّر سوى بمصلحة أميركا أولاً على حساب كلّ دول العالم. كلّ هذه الأمور مكّنت الصين من أن تصبح لاعباً أساسياً وملاذاً لكلّ الدول الأوروبية والإقليمية للإستفادة من اقتصادها.
لتأليف حكومة جديدة تمتلك القدرة على اتّخاذ الخيارات الإستراتيجية
وحول كيفية استفادة لبنان من جو الشراكة القائم في الشرق، يأسف جباعي كون لبنان لا يزال يتخبّط بمشاكله السياسية ولم يتمكّن من تشكيل حكومة، ما يؤكّد إلى أي مدى يفتقد لبنان القدرات السياسية لاتخاذ القرارات. ويشدّد جباعي على أنّنا بحاجة في لبنان إلى تأليف حكومة جديدة تمتلك القدرة على اتّخاذ الخيارات الإستراتيجية. من أبرز هذه القرارات التوجه شرقاً للإستفادة لما فيه مصلحة لبنان. ليس بالضرورة -وفق جباعي- أن نذهب بالمطلق شرقاً، بل أن "نمسك العصا من المنتصف" ونستفيد من القوة الاقتصادية الضخمة في العالم كالصين لما فيه مصلحة لبنان. الأخير بحاجة للإنضمام إلى هذا النّوع من الشراكات والإنفتاح على هذه الدول لأنّه من الواضح أنّ لبنان إذا استمر باتّباع الطرق الغربية حصراً لن يصل إلى مكان في ظلّ الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يتخبّط بها.
الشراكة ستساعد لبنان على النهوض بإنتاجه المحلي بالحدّ الأدنى
ويُشدّد جباعي على أنّ لبنان بحاجة إلى ضخّ استثمارات جديدة في اقتصاده. من وجهة نظره، يجب أن يكون من أولى استراتيجيات الحكومة القادمة الإتفاق مع الصين ومع إيران وغيرهما وأن يكون لديها القدرة على اتّخاذ قرارات استراتيجية لتغيير النمط الاقتصادي السائد والقائم على الريع بانتظار المساعدات والقروض والتمويل من الغرب. برأيه، علينا الذهاب إلى اتّفاقات -مع دول كالصين- قائمة على الإستثمارات في الصناعة والزراعة لتقوية الاقتصاد اللبناني وتحويله من ريعي بالمطلق إلى انتاجي قادر على الصمود في المستقبل. لتحويله إلى اقتصاد بنيوي قائم على الخطط التنموية. بإمكان لبنان الإستفادة من الإستثمارات الصينية بعدّة مجالات منها الطاقة، المياه، سكك الحديد، وشبكة المواصلات والإتصالات. هذه الشراكة ستساعد لبنان على النهوض بإنتاجه المحلي بالحدّ الأدنى، والذي وصل حالياً إلى 16 مليار دولار، فيما نحن بحاجة إلى أن يصل إلى 50 مليار دولار سنوياً. من مصلحة لبنان الذهاب إلى هكذا نوع من الإتفاقيات، يختم جباعي.