خاص العهد
تعاميم "الهيكلة" بين المواربة والحقيقة
فاطمة سلامة
كثيراً ما سمعنا عن القطاع المصرفي في لبنان أنّه رافعة الاقتصاد الوطني. إلا أنّ تلك الرافعة سرعان ما تهدّمت أعمدتها مع تعمق الأزمة الاقتصادية لتكشف اللثام عن إحدى أسوأ الأزمات المصرفية في العالم. ربما لم نر مشاهد المودعين "يستجدون" الحصول على القليل من أموالهم كالذي رأيناه بأم العين في لبنان. أفقدت هذه الأزمة الثقة كلياً لا جزئياً بالقطاع المصرفي. فضّل المودعون ركن أموالهم في المنازل رغم كل ما يحيط بالأمر من مخاطر. التجربة لم تكن قط مشجّعة. وعليه، أحد لن يجرؤ مجدداً على التعامل مع المصارف اللهم إلا اذا تمكّن من إعادة الثقة الى سابق عهدها. وبطبيعة الحال لهذه النتيجة المرجوة شروط تضمن لهذا المودع أو ذاك استعادة قرشه الأبيض في يومه الأسود.
أمام هذا الواقع طُرحت العديد من الحلول للنهوض بالقطاع المصرفي أو أقله الوقوف على رجليه. من هذه الحلول أشير الى هيكلة المصارف. وهذه الهيكلة -بحسب الخبراء- تتم إما بواسطة زيادة رأسمال المصارف، أو دمج مصارف مع بعضها البعض. طرح الدمج يفتح العين على حجم القطاع المصرفي الموجود في لبنان. الأخير يعاني فائضاً في عدد المصارف مقارنة بالناتج المحلي، اذ لدينا 63 مصرفا بين تجاري وأعمال، بينما يبلغ عدد سكان لبنان 6 ملايين، والناتج المحلي 18.7 مليار دولار عام 2020، وهو عدد كبير جداً إذا ما جرت مقارنته بدول أخرى كبريطانيا مثلاً التي تملك 10 مصارف رغم أنّ عدد سكانها 67 مليون نسمة.
في آب الماضي، أصدر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة غير تعميم تحت عنوان "إعادة تفعيل عمل المصارف العاملة في لبنان". وبالموازاة، أعلن في حديث صحفي أنّ البنوك اللبنانية غير القادرة على زيادة رأس المال بنسبة 20 في المئة في نهاية شباط 2021 سيتعيّن عليها الخروج من السوق. في الإعلان دعوة صريحة لإعادة هيكلة أولية للقطاع المصرفي. تلك الهيكلة التي يصفها الخبراء بالضرورية، لا تتم كيفما كان، بل تتطلّب -من وجهة نظرهم- الأخذ بعين الاعتبار مجموعة من النقاط الجوهرية كي لا تكون هيكلة "وهمية" بل فعلية. وهنا تبرز عدة أسئلة: هل خطوة مصرف لبنان "مكتملة" أم بمثابة "دعسة ناقصة"؟ ما أهداف سلامة الحقيقية وراء هذا الطلب؟ ماذا عن المصارف التي لن تتمكّن من إجراء الهيكلة الأولية؟ كيف السبيل لإجراء "هيكلة" حقيقية؟.
خوري: لإنجاز خطة اقتصادية واضحة قبل الهيكلة
وزير الاقتصاد السابق والمصرفي رائد خوري يتحدّث لموقع "العهد" الإخباري عن إعادة هيكلة المصارف، فيوضح بداية أنّ الهيكلة تشير الى إعادة انتظام المصارف. الأخيرة مطلوب منها وفق تعاميم مصرف لبنان خطوتان:
-إعادة الرسملة لأنّ الخسارات كبيرة بالنسبة لسندات الخزينة وسندات مصرف لبنان
-وضع سيولة في الخارج بما يعادل 3 بالمئة أو أكثر من مجمل الودائع بالعملة الأجنبية
وفق خوري، هاتان الخطوتان مطلوبتان ليصبح المصرف قابلاً للحياة، لكنه يلفت في المقابل الى أنّ بعض المصارف تمكّنت من تنفيذ المطلوب منها، والبعض الآخر لم يتمكّن من تحقيق ذلك. يعرب خوري عن تفهمه لعدم قدرة المصارف على الهيكلة. من وجهة نظره، كي يتشجّع أي كان على وضع رأسمال في مصرف، يجب أن يكون لدينا خطة واضحة اعتمدتها الحكومة لمعرفة مجمل الخسائر، ونسبة الاقتطاع على سندات الخزينة بالعملات الأجنبية "اليوروبوند". وعليه، بما أن الدولة غائبة ولا خطة لديها -يقول خوري- لن يجرؤ المستثمر على وضع أمواله في المصارف وهو لا يعلم ما اذا كانت "ستضيع" عليه أم لا. وفق قناعات خوري، هناك مسؤولية على الدولة لإنجاز خطة اقتصادية واضحة والاتفاق مع حاملي سندات الدين، وعلى أساس ذلك يتم إحصاء الخسائر.
الهيكلة أو الاستحواذ على المصرف بعد انقضاء المهل الاضافية
ماذا عن المصارف التي لن تتمكن من إنجاز إعادة الهيكلة؟ يوضح خوري أنّ مصرف لبنان سيحيل من لم يتمكّن من إنجاز هاتين الخطوتين الى الهيئة المصرفية العليا. الأخيرة ستأخذ قراراً إما بإعطاء مهلة إضافية وهذا أمر مشروع قانوناً -بحسب خوري-، وإما سيُتخذ القرار بعد نفاد المهلة بأن يستحوذ المصرف المركزي على هذا المصرف. هل سنشهد اشتباكاً بين المصارف التجارية والمصرف المركزي؟ يجيب خوري "من الطبيعي أن يحصل ذلك".
ولا يخفي خوري أنّ مسألة الهيكلة معقدّة. المطلوب قبل كل شيء تنظيف البيت لمعرفة مكامن الخلل، لكن الدولة حتى اللحظة لم تنجز هذه المهمة، فكيف تطلب من المصارف زيادة رأسمالها ومن غير المعروف القعر الذي وصلنا اليه؟ يسأل خوري الذي يلفت الى أنّ خطة المصرف المركزي ولكي تكون فعالة أكثر يجب أن تكون بعد إقرار خطة اقتصادية للدولة. بنظره، خطوة الهيكلة الحالية غير مكتملة. يلزمها خطة توزيع الخسائر ليصبح لدى المستثمر الثقة بالمصرف، ولاحقاً خطة اقتصادية.
وفي ختام حديثه، يلفت خوري الى أنّنا أمام خطوة أولى في إعادة الهيكلة. حتى ولو التزمت المصارف بهذا الاستحقاق، إلا أنها بالنتيجة تضع دولاراً محليا لا أجنبياً. وعليه، هي خطوة أولى تتطلب أن يكون هناك ثقة بالبلد لاسترجاع الثقة بالقطاع المصرفي.
الكيك: المصارف تعيش انهياراً تاماً وخطوات المركزي غير جدية ولا فعالة
قراءة في التعميم 567
الباحثة في الشؤون القانونية والمصرفية الدكتورة سابين الكيك تجري في حديث لموقع "العهد" الإخباري قراءة شاملة لتعاميم المصرف المركزي في السياق المذكور، فتوضح أنّ التعميم رقم 567 طرح فيه حاكم مصرف لبنان قضية إعادة تكوين 20 بالمئة من أموال المصارف الخاصة. ولكن التعميم -بحسب الكيك- يخفي خلفه نقاطا تقول إن المصارف لن تلتزم، وحتى ولو التزمت، فلن ينعكس هذا التعميم سيولة وأموالا جاهزة في حسابات وميزانيات المصارف. وهنا تسهب الكيك في الشرح، لافتةً الى أنّ الـ20 بالمئة التي طالب التعميم بها مجزأة الى جزأين؛ جزء يتيح للمصارف بأن تكوّن 10 بالمئة على هيئة عقارات، وهنا تبرز عدة أسئلة، أولاً: الى أي مدى يمكن تسييل هذه العقارات وتصفيتها خصوصاً أن الحاكم أعطى مهلة 5 سنوات لتصفية هذه العقارات وكأنه أجل عملياً الـ10 بالمئة الى 5 سنوات قادمة. ثانياً: الى أي مدى ستكون عملية تخمين هذه العقارات وإدخالها بميزانية المصارف مضبوطة ومراقبة؟. ثالثاً: الى أي مدى ستكون قيمة هذه العقارات منسجمة فعلياً مع القيمة الفعلية بسوق العقارات في ظل الاقتصاد التضخم وانهيار القدرة الشرائية.
أما الجزء الثاني، أي الـ10 بالمئة المتبقية، فقد أعطى التعميم الحق للمصارف بتكوين أي نوع من الأدوات المالية بعملات أجنبية. وهنا بيت القصيد، فالأدوات المالية متعددة وقد تكون سندات وأسهم ما يعني أنها ليست بالضرورة أن تكون أموالا جاهزة.
الى أي مدى تجابه المصارف الواقع؟
وعليه، ترى الكيك أنّ هذه الهيكلة بالشقين تدل على أنّ ما يسعى المصرف المركزي الى تكوينه هو ليس السيولة للمصارف بل الملاءة، ما يكشف عن خطر وحجم الانهيار المالي الموجودة فيه المصارف كما هي اليوم بحالتها الحقيقية. وفق الكيك، فإن الوضع المالي للمصارف ووفق تعاميم مصرف لبنان يدل على انهيار تام الى حين إثبات العكس. وهنا السؤال: الى أي مدى تجابه هذه المصارف الواقع وتقدم ميزانياتها بطريقة شفافة وصريحة خاصة أن شركات تدقيق عالمية يعتمدها مصرف لبنان تقول إنّ الأرقام التي قدمت اليها غير متكاملة، وكما هي موجودة فإنّ حالة المصارف كارثية. وبحسب الكيك، والى حين أن نرى ميزانيات المصارف، بإمكاننا أن نجزم على لسان المصرف المركزي أنّ حالة المصارف بانهيار تام ليس بالسيولة فقط بل بالملاءة، ولذلك فالخطوات غير جدية ولا فعالة ولا تحاكي عمق الأزمة.
وبغض النظر عن الدخول في تفاصيل مختلف بنود التعميم 567، تشير الكيك الى أنّ كل بند وموجب طلبه سلامة من المصارف في هذا التعميم يفسح المجال في آخره لإعفائها أو إعطائها استثناء ومهلة، وكأنه يضع الموجب ويعطل مفعوله في المادة نفسها.
التعميم 154..مغالطات قانونية للتعمية على الحقيقة
أما في ما يتعلق بالتعميم 154، فالمصرف المركزي توجه للمصارف لإعادة تكوين 3 بالمئة من موجوداتها بالحسابات لدى المصارف المراسلة عن طريق استعادة أموال حُولت الى الخارج. وهنا تبدو المفارقة -بحسب الكيك- لأنّ المصرف يطلب استعادة أموال حولت للخارج تفوق قيمتها الـ500 ألف دولار تحت طائلة الملاحقة بجرم تبييض الأموال، والسؤال: كيف يطلب المركزي استعادة أموال من الخارج لإعادة تكوين حسابات للمصارف اللبنانية في المصارف المراسلة في الخارج؟!. هذه المعادلة الغريبة العجيبة -تقول الكيك- قائمة على استعادة الأموال من الخارج لإعادة وضعها في الخارج. وعدا عن أنه كيف سنستعيد هذه الأموال، من المفيد الإشارة الى أنّ التجار -اذا ما استبعدنا السياسيين- الذين فتحوا اعتماداً لم يحولوا الأموال ليضعوها في حساباتهم بل دفعوها كالتزام لأشخاص آخرين. وفق الكيك، هذه جملة من المغالطات القانونية التي وُضعت للتعمية عن الحقيقة.
التزامات غير مدفوعة للمصارف المراسلة
وفي المقابل، يطلب سلامة تكوين 3 بالمئة من قيمة الودائع التي كانت موجودة في شهر 7 2019 ما يدل على أنّ المصارف لديها التزامات غير مدفوعة للمصارف المراسلة، وهذا يشير الى أن المصارف ليس لديها خسائر لمودعيها فقط بل للمصارف المراسلة، ما يجعلنا نسأل ماذا تقدم هذه الخطوة أو تزيد على حجم ميزانية المصارف؟ وكيف ستعيد هذه المصارف هيكلة نفسها في هذه القضية؟.
أين كان مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف عند انهيار القطاع المصرفي؟
وفي التعميم نفسه، يطلب سلامة من المصارف تكوين رأسمال كلي أو جزئي وإجراء تقييم مالي عادل. وفق الكيك، لا يوجد تقييم مالي عادل بل تقييم صحيح أو غير صحيح. مفهوم العدالة والتقييم المالي لا يلتقيان. وفق الكيك، يطلب سلامة من المصارف التي لا ملاءة ولا سيولة لديها إعادة تكوين رأسمالها، وسط انعدام الثقة مع المودعين وعدم وجود رأسمال. وهنا تسأل الكيك: ماذا بقي من هذه المصارف اذا كانت بهذا الوضع السيئ؟ كيف وصلت الى هنا؟ أين كان مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف عند انهيار هذا القطاع؟. كيف للحاكم أن يقول إنه ليس مسؤولاً؟ كيف بإمكاننا التصديق على أن لا أخطاء إدارية لمصرف لبنان تجيز إقالته؟ وكيف للمصارف بأكملها أن تعيد تكوين نفسها ولغاية الآن لا ميزانيات صحيحة ومدققة من شركات تدقيق داخلية أو خارجية؟.
التعميم يوحي بأن الحاكم يعمل على تعديل القوانين
وفي الختام، توضح الكيك أنّ المادة الأساسية التي تصب في إعادة هيكلة المصارف هي المادة 3 التي تعطي للمصارف إمكانية طرح تحويل الودائع الى سندات دين قابلة للتحويل الى أسهم. هذه النقطة الوحيدة التي تصب في إعادة الهيكلة بغض النظر عن مساوئها وكيفية تطبيقها، خاصة أنها ألحقت بتعميم غير معروفة ماهيته، وكأن الحاكم يُعدل فيه كل أحكام الموجبات والعقود وقانون التجارة والعقود المصرفية مع العملاء.