خاص العهد
"إنشاء مجلس النقد".. شروط ومحاذير بالجملة
فاطمة سلامة
في خضم الأزمات الاقتصادية والمالية والنقدية الكبرى التي تعصف بلبنان، نسمع الكثير من النظريات والطروحات والرؤى التي تُصوّر كبوابة للعبور نحو الحل. بعض هذه الطروحات يبدو منطقياً وواقعياً لا بل ضرورياً للإنقاذ، وبعضها الآخر دونه الكثير من المحاذير. ولعلّ مشكلة البعض في لبنان أنّه يعمل على استنساخ تجارب الدول الأخرى لإسقاطها على لبنان دون أن يعير انتباهاً لطبيعة هذا البلد ونظامه الاقتصادي وخصائصه ومشكلاته المتعددة والتي تتطلّب علاجاً أكثر عمقاً بعيداً عن سياسات الترقيع القائمة. مؤخراً، طرح البعض فكرة إنشاء مجلس نقد في لبنان صُوّر على أنّه المنقذ من المشكلات النقدية والمالية القائمة. في الشكل، قد يبدو الطرح منطقياً، أما في المضمون، فيتحدّث أهل الاختصاص عن شروط ومحاذير لهذا المجلس اذا لم يقترن برؤية إصلاحية شاملة. فما هو مجلس النقد؟ وهل هذا النموذج قابل للتطبيق في لبنان؟.
عكوش: مجلس النقد هو هيئة مستقلة تتولى وظيفة إصدار النقد
يعرّف الخبير الاقتصادي الدكتور عماد عكوش مجلس النقد بالإشارة الى أنه: "هيئة مستقلة عن المصارف المركزية تتولى وظيفة أساسية تتمثل بإصدار النقد، شرط أن يكون مغطى بعملة "مرساة" عادة ما تكون العملة الأكثر تجارة مع الدولة". في لبنان، يوضح عكوش أنّ العملة الأكثر تجارة مع هذا البلد هي "اليورو" حيث ينشط الاستيراد من الاتحاد الأوروبي. وبهذا المعنى تنحصر وظيفة مجلس النقد في إصدار النقد مع تثبيت سعر الصرف وفقاً للعملة "المرساة" التي يختارها البلد، لتبقى بقية السياسات النقدية من مهام المصرف المركزي. وبحسب عكوش، لا يحق لهذا المجلس تقبل الودائع أو إقراض الدولة، كما أنّ التزامه يجب أن يكون طويل الأجل، اذ ليس بإمكانه تثبيت سعر الصرف لمدة قصيرة كعام مثلاً. ووفق قانون مجلس النقد، يجب أن يكون سعر الصرف ثابتاً، فيما تمتلك العملة المحلية قابلية التحويل تلقائياً، عكس ما يحصل الآن حيث يتم شراء الدولار أحياناً حسب السعر الرسمي أو المنصة أو غيرها.
إنشاء مجلس النقد يجب أن يتم ضمن رؤية شاملة
ويوضح عكوش أنّ نموذج مجلس النقد طُبّق في العديد من البلدان كالأرجنتين، هونغ كونغ، لتوانيا، واستونيا. إلا أنّ نجاح التجارب وفشلها يتوقّف على أوضاع كل بلد، فوظيفة مجلس النقد تتحدد بما يتلاءم مع القانون المحلي وظروف البلد. في لبنان مثلاً، لدينا العديد من المشاكل فيما يتعلق بالنقد وهي لا تنحصر -وفق عكوش- بتعدد أسعار الصرف أو عدم القدرة على تثبيته. وعليه، فإنّ إنشاء مجلس النقد وفق رؤية الخبير الاقتصادي ليس بالبساطة التي يروّج لها البعض، بل يجب أن يتم ضمن رؤية شاملة تتضمن خطة اقتصادية شاملة وإصلاحات في القوانين، اذ لا يمكن القيام بخطوة وإهمال خطوات أخرى وإلا نذهب الى ما هو أسوأ، خصوصاً أنّ مجلس النقد لا يحل المشكلة الاقتصادية القائمة ولا أزمة الدين العام ولا مشكلة الودائع أو العجز الدائم في الموازنة. إنه يحل فقط مشكلة تثبيت سعر الصرف ولكن دون هذا الأمر محاذير أيضاً.
المشكلة الأساسية تكمن في تغطية الودائع القديمة
ويرى الخبير الاقتصادي أنّ المشكلة الأساسية التي من الممكن أن يواجهها مجلس النقد لا تكمن في عجزه عن تثبيت سعر الصرف -فهذه الوظيفة قد ينجح بها وفقاً لاحتياطي العملات الصعبة الموجودة في مصرف لبنان بحيث من الممكن أن يعمل على تثبيت العملة المصدرة الجديدة وفقا لسعر صرف يحدده- لكنّ المشكلة الأساسية -وفق عكوش- تكمن في الودائع القديمة، فكلنا يعلم أن هناك ودائع بالدولار في المصارف ومصرف لبنان تعادل 85 بالمئة من مجمل الودائع، أي ما يزيد عن 120 مليار دولار، وللأسف لا يملك لبنان -وفق عكوش- تغطية تقابل هذا المبلغ الهائل من الدولارات، اذ إن احتياطي العملات الصعبة يبلغ حوالى 20 مليار دولار واذا ما أضفنا اليه الذهب (17 مليار دولار) والعملات الصعبة الموجودة لدى المصارف التجارية (10 مليارات دولار) لا يتعدى المجموع الـ47 مليار دولار مقابل 120 مليار دولار ودائع يضاف اليها 20 مليار دولار كعملة مصدرة موجودة في المنازل ليصبح المجموع 140 مليار دولار مقابل 47 مليار دولار، وبهذه الحسبة لا يملك لبنان تغطية كاملة لمجمل الودائع، وهنا المشكلة الأساسية برأي عكوش.
أي سعر سيختار مجلس النقد لتثبيت العملة؟
ويضيف المتحدّث مشكلة أخرى من المرجّح أن نواجهها لدى إنشاء مجلس النقد تتمثل في أنه مطلوب منا أن نعوّم العملة لفترة محددة حتى نصل الى سعر يقبله السوق. والسؤال هنا: أي سعر سيختار مجلس النقد -اذا تألف- لتثبيت العملة على أساسه؟ هل سعر المنصة أو سعر 5 آلاف أو 8 آلاف؟ من يحدد هذا الأمر؟. وفق عكوش فإنّ التشريعات الخاصة بمجلس النقد تنص على تعويم العملة لفترة محددة حتى نحدد السعر الذي من الممكن أن يتقبله السوق، والخطورة تكمن في أن لا أحد يعلم السعر الذي سيقبله السوق اذا ما قام مصرف لبنان بتعويم الصرف، خاصة وسط انتشار المضاربات الكبيرة في السوق وحجم الكتلة النقدية الكبيرة، لذلك فالعملية تحتاج الى تشريعات وضوابط.
لإصدار تشريعات جديدة
ويلفت الخبير الاقتصادي الى أنّ إنشاء مجلس النقد لا يمكن أن يتم بمعزل عن إصدار بعض التشريعات الجديدة اذ بإمكاننا تثبيت العملة المصدرة الجديدة، ولكن هذا الأمر يتطلب معالجة الودائع القديمة عبر إصدار قوانين على رأسها قانون "الكابيتال كونترول". إصدار هذا القانون يجب أن يتم بشكل متواز مع إنشاء مجلس النقد وإلا يخلق هذا المجلس فوضى كبيرة في السوق اللبناني. كما يشدد عكوش على ضرورة إصدار تشريعات تعيد الثقة مع المصارف لضمان الودائع الجديدة، فجذب الدولارات من خزنات المنازل والشركات الى المصارف يجب أن يتم عبر تشريعات جديدة لتعزيز الاحتياطي. وبتقدير عكوش، دخل الى لبنان عام 2020 ما بين 6 الى 7 مليارات دولار كتحويلات للمغتربين. هذه الأموال بقيت في المنازل ولم تدخل الى المصارف ولم يتم الاستيراد بها. وعليه، يجب أن نبتكر قانوناً جديدا لها يطمئن المودع لاستردادها الى المصارف.
ويدلّل عكوش على مشكلة إضافية تتعلّق بالدعم الذي يصرفه البنك المركزي على المواد الأساسية. وفق حسابات عكوش، ليس بإمكان مجلس النقد حل هذه القضية فهي مشكلة مستقلة، والسؤال هنا: في حال تألف مجلس النقد، هل سيلتزم بالقانون لدى إصدار العملة اذا ما استمر مصرف لبنان بعملية الصرف من الاحتياطي الموجود؟ يسأل عكوش ويختم حديثه.