خاص العهد
معادلة "الجوع أو الذُل" ليست قدرًا: لماذا لا نتوجه شرقًا؟
ياسمين مصطفى
"لبنان ليس بلدا مفلسا ولكنه بلد منهوب"، عبارة تلخص الواقع السياسي والنقدي الراهن، القائم على اقتصاد ريعي مرتهن للدولار، بتوقيع من طبقة سياسية آثرت مصالحها الضيقة على المصلحة اللبنانية العليا والأمن القومي اللبناني. فهل ينجح لبنان، ذو الموقع الجيوسياسي المميز، بالانفتاح على خيارات دولية جديدة؟ وما هي "عدّة الشغل" نحو سياسات اقتصادية تحاكي المصلحة الوطنية اللبنانية أولا؟
نخب سياسية واقتصادية عدة شجعت خيار التوجه نحو الشرق انطلاقا من الدفع الذي أعطاه الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله وقبله كثير من خبراء الاقتصاد بأن ثمة بدائل عن الارتهان للغرب. السؤال عن إصرار البعض في الداخل حول الرهان على اقتصاد أميركا المتهاوي تكرر على لسان محدثينا، مقابل تجاهل عروض دول للبنان تخلو من مطامع استعمارية.
وزير المال الأسبق د. جورج قرم يحدد في حديثه لموقعنا ما هو مطلوب للتحرر من الهيمنة الأميركية. أول المطالب العدول عن قرار ربط الليرة اللبنانية بالدولار الأميركي، وهو قرار يخالف كل القوانين النقدية للدول والقائمة وفق أسعار صرف عائمة. وبدلا من ذلك يكون التوجه إلى ربط الليرة بسلة من العملات على رأسها اليورو، لكون أكبر مجموعة تجارية حول العالم مركزها أوروبا. أما المطلب الثاني فهو إلغاء كل اتفاقات التبادل الحر التي تم توقيعها في الثلاثين عاما الأخيرة، والتي أوصلت اقتصاد لبنان إلى الحضيض.
وعن العقبة الأكبر أمام قيام نهضة اقتصادية وتنموية في لبنان، يجيب قرم بأنها "المحاصصة الطائفية"، القائمة على العلاقات بين المنتفعين السياسيين وكبار الرأسماليين في البلد، حتى وصل الأمر الى أن يمثل تعيين موظف في الدولة سببا لاحداث أزمات كبيرة.
وزير المال الأسبق الياس سابا يوافق قرم على طروحاته، مضيفا إن طرح السيد نصر الله هو الأفضل حتى اليوم، من بين الطروحات الموضوعة على طاولة البحث. لكن هذا الطرح وفق سابا يحتاج إلى قيادات ورجال لديها "رِكاب تهَدّي".
"مقولة أن لبنان رابط الشرق بالغرب ليست سوى شعارات لتبرير ارتباط النخب البورجوازية فيه برأس المال الفرنسي منذ القرن الثامن عشر وبعدها الرأسمال الإنغلوساكسوني أي البريطاني والأميركي". الرأي لأستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية جمال واكيم. مع صعود نجم الصين وروسيا مقابل تهاوي النموذج الرأسمالي الأميركي، يرى واكيم، كما قرم وسابا، مصلحة لبنان بالالتفات شرقا، والبدء بفصل الليرة عن الدولار كون هذا الخيار أبرز أساليب الولايات المتحدة للهيمنة على بلدنا الصغير. يأتي بعدها التوجه إلى الصين، روسيا، وغيرها من الدول التي تشكل رافعة للاقتصاد الأوراسي الساعي للانفتاح على بلدان الشرق الأوسط.
الوزير السابق عبد الرحيم مراد نقل عن مصادر مالية قولها إن "قيمة العروض الصينية التمويلية لمشاريع تنفذها وتديرها شركات صينية في لبنان يزيد عن 12 مليار دولار، وإن الرقم قابل لبلوغ 20 ملياراً إذا تمّ ضمن بروتوكول حكومة لحكومة، لكن الحكومة اللبنانية لا تزال متردّدة في بدء مفاوضات رسمية تتخطى شكليات الاستماع"، إذاً فـ"القطبة المخفية" تكمن في الإرادة السياسية لقيادات الصف الأول وأركان القرار في لبنان.
العلاقات بين الدول تبنى وفق واكيم على المنفعة المتبادلة، ما يفترض أن أية عروض صينية أو روسية أو من دول أخرى لا بد أن تقترن بمصالح لهذه الدول. وفي حين يرى كثيرون أن لبنان فاقد للمميزات وبالتالي لا يعطيها، يؤكد واكيم العكس ويقول: "مصلحة الدول الشرقية في لبنان تكمن في رسوّه على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، هذا العامل وحده يرفد الكتلة الأوراسية بنوع من الرصيد في حال عززت علاقاتها بنا لأنه يسهل وصولها إلى شرق المتوسط، إحدى أهم مناطق التفاعل الحضاري والربط بين القارات الثلاث أوروبا، آسيا وأميركا".
تجارب دول مع صندوق النقد
لدى البحث في تجارب الدول وسياساتها للخروج من الأزمات الاقتصادية، نجد من خضع لصندوق النقد الدولي وجنى "الحصرم"، ومن سار عكس التيار الغربي ونجح في التخلص من هيمنة الولايات المتحدة الأميركية. على الصعيد العربي، كانت تجربة مصر في عهد الراحل جمال عبد الناصر واضحة في هذا الخصوص، فلجوء مصر إلى صندوق النقد الدولي وضعها آنذاك أمام تحدي رفض التوقيع على شرط "السلام" مع الكيان الصهيوني، وما إن رفض عبد الناصر هذا الشرط حتى سحب صندوق النقد تمويله للقاهرة.
أما على الصعيد الإقليمي، نرى أن تجربة الجمهورية الإسلامية في إيران أكبر دليل على إمكانية تخطي الهيمنة الغربية. ثمة من يقول إن وقوع الدول الرافضة للخضوع للأوامر الأميركية تحت الحصار هو ما ساعدها على كسره. فإيران رغم العقوبات الجائرة رائدة على الصعيد التكنولوجي بجهود داخلية محضة.
دوليا، تأتي تجارب الدول اللاتينية مع صندوق النقد الدولي مثل الأرجنتين وفنزويلا- قبل عهد الرئيس هوغو تشافيز- نتاج توقيع هذه الدول على شروط الصندوق أدت لتفاقم أزمتها الاقتصادية. البديل عن هذا الخيار وفق واكيم يتطلب قرارا لبنانيا سياسيا جريئا، وتأمينا للسلة الغذائية، وتوجها للنخب المصرفية نحو الشرق أيضا.
ومع تهديد الأميركي للبنان بالتجويع، يصبح التوجه نحو الشرق وفق عضو حركة الشعب عمر واكيم بديهيا. يبسّط أكثر ما قاله الأمين العام لحزب الله بالأمس، موضحا أنه كما الحماية العسكرية تقتضي تنويع مصادر التسليح، تقتضي الحماية الاقتصادية الاجتماعية تنويع مصادر التعاملات التجارية.
لكن التوجه شرقا-وفق واكيم- ليس معناه الاستغناء عن الدولار والغرب، وليس هذا ما قاله السيد نصر الله مطلقا. يذكّر واكيم بأن ما حصل بعد العام 1991 هو تدمير ممنهج وسياسة واضحة لتدمير قطاعات الإنتاج اللبناني، مقابل خطة صهيونية واضحة المعالم ليكون لبنان سوقا استهلاكيا للبضائع الإسرائيلية، فكان التدمير للقطاعين الزراعي والصناعي اللبنانيين عبر إدخال لبنان اتفاقية التجارة العالمية بتحريض أميركي، لكن واشنطن نفسها ليست داخلة فيها، وفي المقابل تم دفع لبنان للاستثمار في سندات الخزينة لتحويله للاقتصاد الريعي.
وحول ما يهم الصين في الانفتاح على لبنان يقول واكيم:"يهمها خط التجارة التقليدي المعروف بـ"خط الحرير"، يهمها فتح خطوط تجارية في الشرق الأوسط". التعاطي مع سوريا هو أيضا وفق واكيم أحد معايير نجاح لبنان في التحول نحو الشرق. في هذا السياق يذكّر بخطة صهيونية لإقامة "سكة سلام"، تربط ميناء حيفا بعواصم الخليج عبر الأردن، عرابها كان ولا يزال إسرائيل كاتس، الذي كان رئيسا للاستخبارات، ولأن ميناء حيفا الرابط قبل الاحتلال عام 1948بين الخليج والشرق كله وأوروبا تضرّر إثر النكبة، تحول ميناء بيروت لواجهة الشرق، وهو ما لا يريده له الغرب أن يُثمر".