خاص العهد
"هكذا ينجو المُخِفّون".. قصص لم تُروَ عن الشهيدين الشيخ "أبو ذر" ونجله الشهيد علي
ياسمين مصطفى
في 25 أيار من العام 2000 حفر اسم الشيخ "أبو ذر" في ذاكرة الصغير والكبير. بعد طول انتظار ورجاء، وشكوى بثّها الشيخ الى الأمين العام لحزب الله بأن التحرير حان والروح لم تلحق بعد بركب الشهداء، ظفر أخيرًا بما صبا إليه، وكان له حسن الختام. نال الحسنيَين معا، فكان شاهدًا على النصر المؤزر ثم شهيدًا على درب الكرامة.
"عِمَّةٌ منتصرة"
في العام 1986 عاد أبو ذر من إيران معممًا ببركة مفجّر الثورة الإسلامية الإمام روح الله الخميني قدس سره، حاملا منه في فكره وقلبه وعدًا بالظفر إذ قال له الإمام: "ستشهد النصر بهذه العمامة". كثر عرفوا الشيخ وعايشوه، وكان لمشهد تنقله بعمّته البيضاء بين المحاور كعالم دين ومقاتل خصوصية في زمن قلّما وُجد فيه علماء مقاتلون.
"أبانا.. أبا ذر"
"هو أبونا ومؤنسنا وحبيب قلوبنا"، عبارات تتردد على غير لسان ممن حدثونا عنه. يستذكر القائد الجهادي "أبو الفضل" حركة الشيخ التي ما كانت تهدأ ليل نهار، متنقلاً ما بين المحاور والمراكز، تارة يحدّث المجاهدين عن الدين والدنيا، وتارة يترك الكلام لرشاشه "البي كاسي" رفيق أيامه الدائم، ليكون الرصاص خير الكلام وأفعله.
وبين هذا وذاك، يقول رفيق الشيخ "الحاج جواد" لموقع "العهد" الإخباري: "كان الشيخ يلحّ على سماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله بطلب القيام بعملية استشهادية فيأتي جواب السيد: "إذا انت يا شيخ قمت بعملية استشهادية نحن نفرح لك، ولكن شهادتك ستترك أثرا كبيرا على نفسية الشباب".
"هكذا يفرُّ المُخِفّون"
كان الشيخ خفیفَ المؤونة كثیرَ المعونة لمحيطه وخاصة المجاهدين، وكان دائم الترحال من قرية إلى أخرى ومن منزل إلى آخر لكونه مطلوباً للإسرائيليين، لذا كان يعتمد إجراءات أمنية كثيرة، وكانت تكفي سيارة لنقل أثاث منزله كله، إذ لم يكن يقتني أكثر من ضروريات الحياة.
"وحده الله يعلم بالنوايا"
يحكي الجريح مهدي ياسين عن زهد الشيخ أبي ذر وتواضعه الشديدين: مرّة سألته لماذا لا تشتري أثاثا جديدا لمنزلك، كان قليل الكلام؛ فأجابني باختصار "أفتَرِض أن صاحب المنزل أراد ان أغادره، حينها سأكون مرتاح البال ولن أنشغل بنقل الأثاث والأغراض، الإنسان في هذه الدنيا لا يعيش لأجل الدنيا بل يعيش للآخرة ولا يعلم متى يغادرها ".
يضيف الجريح: "عاد الشيخ مرة من عملية مع مجموعة من المجاهدين وسرعان ما شرع بغسل ملابسهم وخدمتهم. فقلت له يا شيخ أنت كنت معهم أيضا فلماذا لا تجلس ونحن نخدمك؟! فلم يردّ جوابا، فكرّرنا عليه السؤال فقال: "صحيح أنني كنت والإخوان في العملية نفسها، لكن الله وحده أعلم بالنوايا، قد تكون نيّة أحدهم أفضل من نيّتي، وأنا أريد كسب الأجر والثواب لعلّني إن سقيت أحدهم الماء يُكتب لي أجر أنّني خدمت مجاهدا".
"صناعة للدنيا والآخرة"
مع استشهاد الشهيد صالح حرب - قريب زوجة الشيخ أبي ذر – تكفل الشيخ أيتام الشهيد الصغار حوراء ومريم ومحمد، حيث كانت زوجة الشهيد صالح حينها في مرض شديد. يقول روح الله نجل الشهيد الشيخ "كان والداي لا يميزان بيننا وبينهم قيد أُنملة، كنا سبعة أولاد نعيش في منزل واحد متواضع وكان حنان والدي واهتمامه يفيضان علينا جميعًا".
ولمريم إبنة الشهيد صالح شهادة في حق الشهيد الشيخ: عاملنا بأحسن معاملة، فلا يخرج لنزهة من دوننا ولا يغادر المنزل قبل تفقّدنا ولا يأكل إلا بوجودنا جميعًا، كان يعتبر وجودنا برَكة في حياته ويسعى لكسب الأجر عبرنا. باله طويل، كنا كلنا سبعة أولاد مع اولاده، فيهتمّ بدراستنا، ويتحمّلنا ويساعدنا فلا يكلّ ولا يملّ أبدا.
"على الطريقة الخمينية"
أكثر من مسكن انتقلت إليه مريم مع الشيخ وعائلته، لكن الثابت فيها واحد: " أول ما يشد انتباهك في كل البيوت التي تنقّلنا إليها صور الشهداء على الجدران وصورة آية الله السيد القائد الإمام علي الخامنئي دام ظله، حتى على الأبواب والخزائن، كان أشبه بمركز وليس بمنزل! كان الصالون عبارة عن فرشتين ومساندهما، تماثلها غرفة الجلوس، أما أواني المطبخ فهي عبارة عن الأشياء الضرورية التي يحتاجها الإنسان في اليوم".
لا تنسى مريم سيارة الشهيد "الفولفو" المتواضعة جدا، وعمّته البسيطة "عالطريقة الخمينية".
"على باب الله"
عندما كان يهم بالخروج من المنزل - تقول مريم- كنا نسأله إلى أين يا شيخ؟ فيجيب بجملته المعهودة "على باب الله"، فنعرف أنه متوجه إلى المحاور، كان هذا العمل يشعره بسعادة عارمة.
كانت كل "مشاويرنا" معه عبارة عن زيارة المجاهدين وعوائل الشهداء وحضور احتفالات المقاومة. كان شخصًا استثنائيًا لا يتكرر، لكنه كان قليل التردد إلى المنزل بحكم عمله، فكنا لشدة ما نشتاقه نتفقد بأنظارنا المكان الذي يركن فيه سيارته قرب المبنى.. وفي المرات النادرة التي كنا نرصدها فيها كانت تغمرنا سعادة كبيرة".
وفي منتصف الليالي الحالكة، كانت تستيقظ مريم على تراتيل قرآنه، فتستأنس بتهجد صوته وهو يقرأ زيارة عاشوراء وهو ما ترك في قلبها اثرًا كبيرًا: كنا نستيقظ على صلاة الصبح فيوقظنا واحدا واحدا لأداء الصلاة ويرافقنا حتى الوضوء، كان يُصرّ على قراءتنا 50 آية من القرآن الكريم يوميًّا، وكان قد وضع على أبواب الغرف آيات وحكماً ولا زلت أذكر جملة منها " لا تقولوا للصلاة عندي درس بل قولوا للدرس عندي صلاة". لا زلت إلى الآن بمجرد سماعي للأذان أتذكرها وأترك أي عمل من يدي وأذهب للصلاة".
علي نجل الشيخ شهيدًا
أكبر أولاد الشيخ الشهيد "أبي ذر" كان الشهيد علي، حامل لواء أبيه ومعيل أسرته من بعده، كان اعتماد أمه عليه كبيرا منذ عمر الـ12 عاما وكان بمثابة الأب لإخوته الصغار.
فجر 25 أيار من العام 2015 قرر علي إحياء ذكرى والده بشكل مختلف، يمّم وجهه نحو سوريا لتلقين التكفيريين درسا، على خطى والده الشيخ في تلقين الاحتلال الإسرائيلي -الوجه الآخر للإرهاب التكفيري- دروسا في البأس.
كان هدف المعركة تحرير "تلّة الثلاجة" الاستراتيجية في جرود فليطة السورية، والتي يزيد ارتفاعها عن 2000 متر وهي منطقة وعرة ومكشوفة لا شجر فيها.
"يا صادق صادق.. توجه وخمسة من المجاهدين إلى التلّة بسرعة.. الشباب فيها معزولون وعدد الشهداء والجرحى كبير". هذا ما سمعه رفيق جهاد الشهيد علي الشيخ "صادق" في الرابعة والنصف فجرا على جهاز اللاسلكي. توجه لإيقاظ الشهيد وباقي الرفاق.
عند أعلى التلّة كانت رائحة البارود تطغى، وكان دويّ القذائف الصاروخية والرصاص يقطع هدوء الفجر المعتاد، وما كان يمكن لأحد رفع رأسه دون تلقي إصابة. تقدمت المجموعة المؤلفة من ثمانية من قوات التدخل في وحدة الرضوان في حزب الله، وكان من بين أفرادها علي، نجل شيخ المقاومين الشهيد أحمد يحيى (أبي ذر).
يقول قائد السرية المجاهد "حسين" ورفيق طفولة الشهيد علي لموقعنا: "لم نكن نعرف ما كان ينتظرنا أعلى التلّة سوى أننا متوجهون لدعم القوات المتقدمة في المعركة، لكن المفاجأة كانت بوجود شهداء وجرحى لنا على الأرض".
"يا شباب استشهد قائد مجموعتنا ساجد الطيري"، علا النداء في أرجاء تلّة الثّلاجة، يقول حسين "أصررنا على استكمال المعركة، أظهر الشهيد علي بسالة قلّ نظيرها، استشرس في الدفاع وأخذ يركض باتجاه المسلحين فاتحا النار عليهم، شجاعته أشعلت الحماس في قلوبنا، كان هو أول الواصلين إلى رأس التلة، ولمّا أصيب زميل لنا بالقرب منه التفت إليه ليسعفه، وفي تلك اللحظة أصيب بشكل مباشر بالرأس، وارتقى شهيدًا، وصلت إليه وأخفيت جثمانه خلف صخرة صغيرة، وأكملنا المعركة..".
"أحياء ولكن لا تشعرون"
يحدثنا الشيخ الجريح "صادق" عن رفيق الجهاد، ويقول: "كانت معركة تلال الزبداني في سوريا هي سبب لقائنا الأول، هناك كنت أسمعه يتحدث على الجهاز مع قائد سريته وكان الاشتباك محتدما، ولم يكن كلامه يخلو من ذكر أهل البيت عليهم السلام أبدا.. تراه يتقدم للقتال بقول :"يا رب"، "يا زهراء".
يقول الشيخ صادق وهو الذي أيقظ علي فجر 25 أيار للالتحاق بالمعركة: لم يشرب علي الماء ولم يستمهلني لدقائق حتى يحضّر نفسه، ومع وصولنا الى تلة المعركة قلتُ "سلام الله على مظلوميتك يا أبا عبد الله الحسين"، كان عدد الجرحى والشهداء كبيرا، كان يوما قاسيا أظهر الشهيد علي فيه روحا قيادية فريدة، قسّم بسرعة المهام، تولى هو زمام تأمين الميمنة، وباقي الأفراد تأمين الميسرة ".
يختنق الشيخ صادق بعَبرته ويقول: "استشهاد علي كان ثقيلا علينا ويصعب تقبّله، كان استثنائيا، وتقدمه إلى الأمام أولا كان إيثارا وتضحية كبيرة".
هو أيّار الجامع بين الأب والابن، يحمل في ربيعه نسمات الحرية لشعب يليق بها. يختصر تاريخ شهادة الشيخ وابنه مسيرة مقاومة لم تستكن ولم تجبن، فكان مجاهدوها على الخطوط الامامية في الجنوب يقارعون العدو الاسرائيلي، تمامًا كما كانوا على الخطوط الامامية في سوريا والحدود اللبنانية – السورية، بوجه العدو التكفيري. أمّا الهدف، فصون الأمّة وحماية الأرض والعرض، ولأجل ذلك يكون الخيار بين إحدى الحسنيين.