خاص العهد
كارتيل المصارف نهب وراكم الثروات.. ولبنان يجني "حصرم" هندسات سلامة
ياسمين مصطفى
خلال عقود من استلام الحكومات المتعاقبة للحكم في لبنان، كان ثمة أصوات لخبراء اقتصاديين معترضة على الهندسات المالية التي جاء بها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة مع استلامه حاكمية المصرف المركزي في العام 1993 بهدف خدمة مالكي القطاع المصرفي. لكن التوجهات الاقتصادية والسياسية للمنظومة التي جاءت بالرئيس رفيق الحريري رئيسًا للحكومة لم تسمح لهذه الأصوات بالارتفاع، فكان أن استمرت حاكمية المصرف بسياساتها النقدية حتى وصل لبنان اليوم زاحفا إلى صندوق النقد الدولي، مثقلًا بقدرة شرائية متدنية لمداخيل اللبنانيين وارتفاع مستمر لسعر صرف الدولار تخطى عتبة الـ4000، وتضخم مالي حلقت بفعله أسعار السلع والخدمات واضمحلت بسببه الطبقة الوسطى.
كل ذلك كرمى لرغبات كارتيل المصارف، الذي راكم حتى اليوم على حساب المواطن ثروات خيالية. وفي الوقت الذي افتُقد فيه الدولار من السوق، نفض سلامة يديه وشرّع "جيبه" الفارغ، معلنًا لرئيس الجمهورية العماد عون عزوفه عن المساهمة في إيجاد حل، في حين كانت المليارات من الرساميل تُهرَّب من المصارف اللبنانية إلى دول في الخارج دون حسيب أو رقيب.
أمس طالع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة اللبنانيين بلغة مبهمة تدفع المواطن الى البحث في فك ألغاز حديثه. وعلى مدى ساعة كاملة أسمع اللبنانيين كلاما زاد من تعقيد ألغاز الهندسات المالية، وأظهر تناقضًا واضحًا بين ما ادعاه سلامة من جهة وبين الواقع المرير الذي يلمسه اللبنانيون اليوم، والذي انعكس في صعوبة بالغة في تأمين لقمة عيشهم.
الخبير في شؤون النقد والتسليف ووزير المال في حكومة الرئيس سليم الحص 1964-1968 جورج قرم حذر منذ التسعينيات من كارثة نقدية ومالية واقتصادية في حال بقي النظام المالي قائما. واليوم بعد كل هذه السنوات يؤكد قرم لموقع "العهد" الإخباري أن هذا النظام كرس نظام اقتصاد ريعي أقل ما يوصف به أنه "إجرامي" بحق اللبنانيين وصولا إلى حالة الفوضى التي نعيشها اليوم.
وفي معرض تعليقه على مؤتمر سلامة، يرد قرم على الادعاء بأن "الفوائد المرتفعة والهندسات المالية كانت اضطرارية ليكسب لبنان الوقت لإصلاح نفسه"، موضحًا أن معظم الخبراء الاقتصاديين انتقدوا هذه الهندسات وحذروا من مخاطرها، ورأوا فيها وسيلة لاغتناء أصحاب كبرى المصارف على حساب المودعين اللبنانيين.
الخبير المالي والاقتصادي وزير المال الأسبق جورج قرم
بحسب قرم، فإن النظام النقدي الذي تأسس منذ انتهاء الحرب الأهلية ولاقى انتقادات كثيرة، قام على آليات لنهب اقتصاد البلد، أبرز إجراءاتها كانت رفع معدّلات الفائدة على سندات الخزينة بالليرة إلى مستويات عالية جدّاً، وقامت تلك اللعبة على استدانة الدولار بفوائد راوحت بين 5-6%، وتوظيفها في سندات الخزينة بفوائد وصلت إلى 40%.
ومع اتباع سياسة تثبيت سعر الصرف، تأسّس نظام المضاربة، المستمرّ حتى اليوم، إذ كانت عملية تحويل الأرباح الناجمة عن الاستثمار بالدَّيْن العام، من الليرة إلى الدولار، تجري بسهولة ودون أي مخاطر.
وعن تسلح سلامة واحتمائه خلف قانون النقد والتسليف يقول قرم لموقع "العهد" إن هذا القانون نفسه يمنع المصرف المركزي من تسليف الدولة إلا بشرط أن يكون بمقدار 10% من متوسط إيراداتها خلال ثلاث سنوات الأخيرة، لذلك فالمبالغ الضخمة من التسليفات للحكومات المتعاقبة من قبل مصرف لبنان هي بلا شك غير قانونية".
وفي معرض رده على سؤال حول السيولة المفقودة اليوم من العملة الصعبة، والتي طمأن سلامة في المؤتمر المصرفي العربي في العام 2012 عن وفرتها بـ"العملات الأجنبية لدى المصارف والتي ادعى يومها أنها الأعلى في تاريخ مصرف لبنان"، يجيب قرم أن "السؤال كبير وخطير"، ولا بد للإجابة عنه، أن تبدأ الحكومة اليوم بوضع أسس للتدقيق في كل ما سلف من سياسات نقدية ومالية والشروع بمحاسبة كل المرتكبين.
وعن ادعاء الحاكم أن سعر الصرف مستقر لدى المصرف المركزي ويستفيد منه اللبنانيون في نواحٍ عدة، يلحظ قرم أن تعاميم مصرف لبنان المتباينة لجهة تحديد أسعار صرف مختلفة هو أمر سوريالي لم يسبق أن حصل في دولة حول العالم، فضلا عن ادعائه بثبات سعر الصرف واستقرار الليرة، مشيرا إلى أن أكبر خطأ اقتصادي يمكن أن يُرتكب وجرى تكريسه في لبنان كان تثبيت سعر صرف الدولار بالنسبة لليرة، وهذا الأمر بحسب الخبير الاقتصادي كان بدعة اقتصادية ومالية فظيعة وانتحار اقتصادي ومالي، وكان الهدف منه تحصيل أرباح خيالية لكبار من نهب الاقتصاد اللبناني.
المطلوب اليوم بحسب قرم من الدولة اللبنانية القيام بـ"تنقية" مالية، متفائلا لكون هذا هو الاتجاه الذي يبدو أن الحكومة ستتخذه، لافتا إلى أن المطلوب أيضا ورشة عمل طويلة قوامها اختصاصيين وخبراء تكون لديهم رؤية واضحة لتحويل اقتصاد لبنان من ريعي إلى منتج، وتحرير سعر الصرف كي لا يستمر "ناهبو المال العام" بنهب أموال اللبنانيين وجنى عمرهم.
الدولاررياض سلامةالليرة اللبنانيةالمصارف