خاص العهد
الحريري.. عينه على الحكومة وسيفه عليها
فاطمة سلامة
ذهب رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري بعيداً في مهاجمة وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال جبران باسيل. الحكومة المقبلة -بنظره- ستكون حكومته، وعليه يرفض ترؤس أي حكومة يكون باسيل فيها. من يسمع ما تقدّم به الحريري، يظن لبرهة أنّ باسيل كان السبب في كل ما تواجهه الحريرية السياسية اليوم من بلاءات. أقوى البلاءات وآخرها، خروج الحريري من السلطة. إلا أنّ استرجاع الأحداث السياسية التي مرّت بها البلاد يبيّن بما لا يقبل الشك أن شريك الحريري في ثورة الأرز رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع كان السبب في انتحار الحريري السياسي. لا بل على العكس، بقي فريق 8 آذار بمن فيهم رئيس تيار "لبنان القوي" حتى النهاية يناقشون ويفاوضون الحريري لترؤس الحكومة المقبلة أو لتسمية بديل عنه. أكثر من ذلك، قدّمت قوى الأكثرية النيابية "لبن العصفور" للحريري على حد تعبير رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي هدّد بمعاداته الى الأبد، في حال رفض تلك الفرصة. إلا أنّ رئيس حزب "المستقبل" -برأي مصادر متابعة- استخدم كل أساليب المناورة والدلع السياسي والمكابرة، والاصرار على فرض شروط عالية السقف، ايماناً منه بأن السلطة الثالثة مهما غرّبت ستعود اليه، قبل أن يتبيّن له أنّ للصبر الذي يمارسه الطرف الآخر حدوداً لا يمكن معها ترك البلد يغرق أكثر، بل لا بد من تشكيل حكومة انقاذ اليوم قبل الغد.
وتلفت المصادر الى أنّ خسارة الحريري الرئاسية لم يكن نفسه يتوقّعها، على قاعدة "لا غنى عني"، وهو الذي يعلم نقاط الضعف التي تجعله المرشّح الأوفر حظاً لاعتبارات ظلت حتى الأمس القريب أساسية، قبل صدور بيانه الشهير في الثامن عشر من كانون الأول والذي أعلن فيه انسحابه من نادي المرشحين قبل حوالى 16 ساعة من موعد الاستشارات النيابية. حينها، أسقط الحريري بنفسه تلك الاعتبارات التي حافظت عليها قوى الأكثرية وتمسكّت بها حتى اللحظة الأخيرة. وفق المصادر، فإنّ جردة سريعة للمرحلة التي سبقت تكليف الوزير السابق حسان دياب كفيلة بتظهير الفرص التي قدّمت للحريري على طبق من ذهب. الأخير لم يعرف كيف يقتنصها. حتى ما قبل الاستقالة، حاول المعاون السياسي للأمين العام لحزب الله الحاج حسين الخليل اسداء النصح للحريري بعدم الاستقالة، إلا أنّ ساكن بيت الوسط أصرّ على ذلك، ليقع لبنان في الفراغ ويبدأ مرحلة حكومية جديدة كان في غنى عنها، لكنّ الحريري بضغط خارجي دفعه اليها، لتبدأ المباحثات حول التشكيل، وتبدأ معها ضبابية الحريري الذي لم يكن واضحاً وحاسماً في أكثر اللقاءات التي جمعته بفاعلين على خط التشكيل. وحتى إن كان واضحاً وأعطى اجابات حاسمة، -بحسب المصادر- تراه خارج تلك الاجتماعات يعود ليناور، ويعبّر عن موقفه الحقيقي تحت ما يسمى مصادر "بيت الوسط".
ولا شك أنّ باسيل الذي تحدّث عنه الحريري أمس الثلاثاء بلهجة عالية السقف، تضيف المصادر، هو نفسه من بادر عقب الاستقالة باتجاه بيت الوسط وعقد لقاءات مع الحريري للخروج من أزمة الحكومة، وهو نفسه أيضاً من أيّد حكومة تضم اختصاصيين، وعمل كل ما بوسعه لتسهيل ولادة الحكومة، قبل أن يعلن عدم مشاركته في حكومة يقودها الحريري لأسباب عدة خرج فيها الأخير عن القواعد المنطقية لتشكيل الحكومة. ازدواجية المعايير والمناورة التي أتقنها الحريري عبر طرح أسماء بديلة ومن ثم حرقها بشكل أو بآخر، والتصرف على قاعدة "أنا أو لا أحد غيري في الحكومة" أزعجت باسيل، تماماً كما أزعجت قوى أساسية في البلد. بالنسبة للمصادر، ظلّت تلك القوى متمسّكة حتى ما قبل الاستشارات بخيارين اثنين لا ثالث لهما: إما حكومة يرأسها الحريري، أو حكومة يسمي رئيسها الحريري، مع ترجيح الخيار الأول. لقاءات الخليلين بالحريري في بيت الوسط تؤكّد ما سبق. في أحد اللقاءات أصر الخليلان على أن يتولى الحريري رئاسة الحكومة المقبلة. قدما التسهيلات بأن يكون ثلثا الحكومة من التكنوقراط. الحريري أصر على تكليف غيره، معلناً أنّ رؤساء الوزارء السابقين مجتمعين وافقوا على تكليف محمد الصفدي. وافق الخليلان على الطرح وجرى التشاور حوله مع الحلفاء، وبعد أن "استوت" الطبخة الحكومية جرى احراق البديل في الشارع.
تالياً، طرح الحريري اسم الوزير السابق بهيج طبارة، تقول المصادر التي تلفت الى أنّ الحريري أرسل له سيارة خاصة للاجتماع به، فوافقت قوى الاكثرية على الطرح، وقبل أن تنضج عملية التشكيل، سقط الاسم كسلفه في محرقة الاسماء بتوقيع من الحريري. بعدها، سُمّي المدير العام لشركة "خطيب وعلمي" سمير الخطيب، فأبدى الحريري موافقته، حتى أنه قال حرفيا في دردشة مع الاعلاميين "أنا داعم لسمير الخطيب لكن تبقى بعض التفاصيل". اسم الخطيب كان الأكثر صموداً من الصفدي وطبارة، وعلى هذا الاساس حدّد رئيس الجمهورية موعداً للاستشارات النيابية في التاسع من كانون الأول، قبل أن يسقط اسم الخطيب قبل ساعات من دار الفتوى، التي أعلنت ترشيحها للحريري، وفق خطة أعدت بالتنسيق مع رئيس حكومة تصريف الأعمال، وفق ما تقول المصادر. عندها، تيقّن الجميع مئة في المئة ما اعتقدوه سابقاً لجهة أنّ عين الحريري لم تتزحزح قيد أنملة عن كرسي الرئاسة، فعاد الخيار ليرسو عليه من جديد، ويجري تحديد موعد للاستشارات النيابية في السادس عشر من كانون الأول قبل أن يطلب الحريري تأجيله لتأمين تصويت كتلة مسيحية وازنة، بعد أن أعلن تكتل "لبنان القوي" قبل أيام عدم تسمية الحريري لاعتبارات عدة، وبيان كتلة "الجمهورية القوية" بعدم تسمية الحريري قبل ساعات من الاستشارات في غدر واضح بحليف الأمس، وهو الأمر الذي شكّل ضربة قاصمة لترشيح الحريري الذي وضع قوى الأكثرية تحت ضغط "الأمر الواقع" باعلانه الانسحاب ودعوته للمضي في الاستشارات في موعدها.
كل ما سبق -برأي المصادر- يُبيّن أنّ نقطتين قضتا على فرصة الحريري في التكليف: أولى تكمن في الممارسات الخاطئة وعناده وسياسة تضييع الفرص التي اتبعها الحريري خلال مناقشة ملف تشكيل الحكومة، وثانية في الغدر الذي لحقه من "القوات اللبنانية". النقطة الأخيرة ربما تكون "بيت القصيد" لأن لقمة الحكومة وصلت الى فم الحريري كما يقولون، قبل أن ينتزعها البيان القواتي الذي صدر فجر الاثنين بضغط أميركي. وهو البيان الذي سبقته علاقة ليست على ما يرام بين بيت الوسط ومعراب، لأسباب عدة على رأسها المأزق الذي دخله الحريري يوم أعلن استقالته من السعودية في تشرين الثاني 2017. حينها أدرك الحريري أن الشريك في ثورة الأرز طعنه في الظهر، ومارس دور المحرض على الحريري لدى لقائه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان قبل فترة من احتجاز رئيس الحكومة. وللمناسبة فإنّ الحريري أدرك حينها أن قوى الأكثرية كانت الأكثر وفاء حين ذهبت بعيداً في موقفها باستنكار هذا العمل. رئيس الجمهورية وصف الاحتجاز بالعدائي ضد لبنان. وزير الخارجية طالب بعودة الحريري إلى الوطن، بينما بلع البعض لسانه في مؤشر واضح على القبول بسيناريو الخطف المذكور.
والجدير ذكره أن مرحلة ما قبل احتجاز الحريري لم تشبه ما بعدها لجهة العلاقة مع رئيس حزب "القوات اللبنانية" التي وصلت الى الدرك الأسفل. الأخير -تقول المصادر- حاول مراراً وتكراراً عرقلة عمل الحريري عبر وزرائه في الحكومة. أولئك ظهروا بمظهر المعترض على سياسات الحريري لتسجيل نقاط عدة في السياسة. وهذا ما ظهر الى العلن لدى قول جعجع في احد التصريحات أن" هناك خلافا مع الحريري في مواضيع إدارة الدولة، ورئيس الحكومة هو أقوى شخصيّة في لبنان لكنه لا يتصرّف على هذا الأساس". كما بدا الخلاف جلياً لدى دعم جعجع القانون الأرثوذكسي للانتخابات النيابية والذي لم يكن لصالح المستقبل، وبعدها عبر خذلان "القوات" للحريري وتصويتها ضد موازنة العام 2019. تبع ذلك خلاف على تعيينات المجلس الدستوري، وغيرها العديد من المواضيع التي فُقدت بموجبها الكيمياء بين الحريري وجعجع ليُلقّب الأخير بالغدار الذي طعن الحريري حليف الأمس في الظهر، تختم المصادر.