معركة أولي البأس

خاص العهد

هذا ما جلبته المؤتمرات الدولية للبنان
11/12/2019

هذا ما جلبته المؤتمرات الدولية للبنان

فاطمة سلامة

يكاد لا يجتمع عدد من الاقتصاديين والماليين في ندوة أو مؤتمر إلا ويحضر الحديث عن سياسات الاستدانة التي رافقت لبنان على مدى عقود. تلك السياسات تأخذ القسط الوافر من الرجم واللعن، فهي بنظر من تابعوا تداعياتها سبب ما نحن فيه من بلاءات اقتصادية. إنها ببساطة علّة العلل مع ما حملته من آثار عملت على تخدير الاقتصاد اللبناني القائم على المفهوم الريعي بدلاً من المنتج. فتلك السياسات "التسولية" -كما يحلو لأحدهم نعتها- حاضرة دوماً لدى السؤال عن الأسباب التي أوصلت البلد الى القاع، أو لدى مناقشة أغلب الملفات الاقتصادية، خصوصاً أنها أرهقت المالية العامة جراء ارتفاع كلفة خدمة الدين العام. وللأسف، أصبحت هذه السياسة الوسيلة الأسهل للحكومات المتعاقبة منذ التسعينيات حتى اليوم. وبدل أن تبذل الحكومات القليل من الجهود لوضع خطط اقتصادية تقوم على تنشيط القطاعات الانتاجية، كانت كلما اشتدّت الظروف، تناشد الخارج، تطلب منه المساعدة، فتُعقد المؤتمرات الداعمة شكلاً والتي لا تخرج عن سياق المحاولات لتطويع لبنان لأجندة شروط سياسية. 

وما إن يُفتح ملف الاستدانة، حتى تتبادر الى الأذهان السياسات الحريرية التي أرهقت الحجر والبشر في لبنان، والتي للأسف باتت قدراً يلاحق اقتصاد لبنان، حتى الأمس القريب. مناشدة رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري قبل أيام عدداً من الدول طالباً منها المساعدة تشكّل صورة طبق الأصل عن ديدن الحكومات السابقة لأكثر من عقدين ونصف من الزمن. هذا النوع من المناشدات وتظهير لبنان بموقف الضعيف والمستنجد فتح شهيّة الدول لممارسة نفوذها على لبنان. عواصم كثيرة وجدت في هذه المؤتمرات فرصة لفرض النفوذ والسيطرة على السياسة اللبنانية. مؤتمر المجموعة الدولية لدعم لبنان الذي يعقد اليوم الأربعاء في باريس لا يخرج عن هذا المنطق. ما يطرح السؤال عن الجدوى التي حصدها لبنان من هذه المؤتمرات التي عقدت تحت عناوين "إنقاذ لبنان" منذ عهد "باريس 1" (2001) حتى اليوم، بينما في الواقع كانت تعمل على "إغراق لبنان" في الديون. فما الفائدة التي جناها لبنان من سياسات الاستنجاد بالخارج؟. 

الكاتب والباحث الاقتصادي الأستاذ زياد ناصر الدين يوضح أنّ سياسة الاستدانة التي اتبعها لبنان منذ التسعينيات حتى اليوم أرهقت الاقتصاد اللبناني. بنظره، فإنّ نموذج الفوائد العالية الذي اتبعه المسؤولون أرهق الواقع اللبناني بشكل غير طبيعي، وعرض أموال المودعين للخطر. لبنان دفع منذ عام 1992 حتى اليوم مبلغًا يتخطى المئة مليار دولار كفوائد على الدين العام. وهنا يشير ناصر الدين الى أنّ الدين العام الذي يبلغ اليوم 86.5 مليار دولار، يدفع لبنان الجزء الأكبر منهه كلفة فوائد، فخدمة الدين العام بلغت 63 مليار دولار. هذا المبلغ لم يدخل على الأسواق اللبنانية ولا الى الاقتصاد اللبناني.  سياسة الاستدانة أوجبت على الدولة اليوم دفع 6.5 مليار دولار كفوائد سنوية. هذا الرقم لا يمكن الاستمرار به، وفق ناصر الدين، الذي يشير الى أنّه يشكل بين 55 الى 60 بالمئة من ايرادات الدولة.

هذا ما جلبته المؤتمرات الدولية للبنان

يؤمن ناصر الدين أنّ السياسات الاقتصادية المتبعة منذ عام 1992 حتى عام 2018 لم تحمل سوى نتائج سلبية وضعت لبنان أمام تحديات اقتصادية تستوجب التوجه فوراً الى المعالجة. لكنّ المشكلة بنظره تكمن في أنّ رؤية المعالجة ليست موحّدة، فنحن في لبنان خبرنا نموذجين في الحكم : الفاسد والفاشل، ومن خلالهما لا يمكن إنقاذ البلد. لذلك فإنّ العمل وفق منطق الفشل عبر التوجه الى المؤتمرات الدولية لا يمكن أن يبني اقتصاداً. من وجهة نظره، فإنّ كل هذه المؤتمرات تبقى وعوداً وسط العجز عن تشكيل حكومة، وغياب أي رؤية اقتصادية للعلاج، ووسط عدم وجود قرار واضح لدى الفاسد بالتوقف عن الفساد ولدى الفاشل بالتوقف عن أخذ قرارات مالية، نقدية واقتصادية دمّرت الحجر والبشر في لبنان.

ويسترجع ناصر الدين المؤتمرات التي حصلت سابقاً والتي بقيت في جلها وعوداً بلا صرف. مؤتمر "بايس 1" الذي انعقد عام 2001 شاركت فيه المصارف اللبنانية بتغطية دولية، حيث اكتتبت المصارف في سندات خزينة بفائدة صفر بالمئة على مدى أربع سنوات، ولم يكن للخارج دور فعلي في مساعدة لبنان. أما مؤتمر "باريس 2" فقد جاء كتغطية لمؤتمر "باريس 1". ليأتي بعده "باريس 3" الذي أتى في جو من الانقسام الحاد في البلد وفي كنف حكومة فاشلة بامتياز، مع العلم أن المجتمع الدولي لم يف بوعوده بالافراج عن مبلغ    3,5 مليار دولار كانت مشروطة بإقرار لبنان بعض القوانين لها. من بعد ذلك، جاء "سيدر1" في لحظة انتخابات نيابية تهافتت فيها الوعود على لبنان من كل حدب وصوب، ليصبح لاحقاً مشروطاً بنقاط سياسية ومرتبطاً بما يعرف بـ"صفقة القرن". وفيما يتعلّق بمؤتمر اليوم يسأل ناصر الدين، أيهما أهم تشكيل الحكومة أم الذهاب الى مؤتمرات عبارة عن وعود مشروطة بتأليف نوع محدد من الحكومات؟. برأيه، كان الأجدى التوجه الى تشكيل حكومة لا أن نعطي جرعة دعم سياسية لواقع مسؤول عن نظريات الاستدانة والسياسات التي أوصلتنا الى ما نحن عليه من انحدار اقتصادي. 

ويدعو ناصر الدين لمقاربة الأمور بواقعية، فأي سياسة جديدة يجب أن تتّجه الى تخفيض الفوائد، ليس على الودائع فقط، بل على التسليفات والقروض والسندات الخارجية. يجب أن تخفض الفوائد لينطلق لبنان بشكل صحيح لبناء الاقتصاد وتحويله من ريعي الى منتج بعيدا عن المؤتمرات الدولية التي لم تجلب سوى مزيد من الاغراق في الديون. فأي اقتصاد غير انتاجي يبعدنا عن العلاج الفعال. كما يلفت الى أنّ نموذج النظام الريعي لم يعد صالحاً في هذا النظام. علينا التوجه الى نظام اقتصادي منتج لخلق فرص عمل وتشجيع الاستثمارات بدلاً من التلهي بمؤتمرات لن تفيد لبنان، ولن تجلب له سوى الشروط الخارجية وجلب الدعم لشخصيات أثبتت فشلها. ومؤتمر "باريس 3" أكبر شاهد على ذلك، إذ بقي بمعظمه وعوداً بلا صرف. 

وفي الختام، يشدد ناصر الدين على ضرورة الانتباه جيداً لملف النفط والغاز والحفاظ عليه وسط العيون المحدقة به.

 

إقرأ المزيد في: خاص العهد