خاص العهد
جحيم معتقل الخيام: عذابات لن تطويها السنين
محمد حسين
يقدم الإنسان أغلى ما يملك من أجل قضيته المحقة، فهو لم يولد عن عبث. منذ الولادة إلى الشباب، ثم المشيب، تترسخ في الوجدان حكايا تحفر طويلًا في الذاكرة، ويستحيل أن تطوى مع تعاقب السنين.
عقدان من الزمن مرّا على أولى نسمات الحرية التي تلمّسها الأسير المحرر أمين ترمس. ابن بلدة طلوسة الجنوبية اعتقل في الثامنة عشرة من العمر، فقضى أجمل سنوات شبابه في ظلام معتقل الخيام.
كان ترمس في مهمة جهادية ضد المحتل الصهيوني حين وقع في كمين محكم لجيش العميل لحد والعدو الاسرائيلي. كان الكمين برئاسة العميلين روبين عبود وأبو عريضة. تلقى ترمس الضرب وهُدِّدَ بالقتل. وجّه العملاء أسلحتهم نحوه قبل أن يسمعوا جوابه: "بدك اقتلني، ما فارقة معي". لكنهم فضّلوا أن يقتلوا ترمس ببطء في عذابات الأسر على أن يقتلوه برصاصة.
كانت تلك نقطة البداية لرحلة عذاب امتدت عشر سنوات. كيسٌ في الرأس ثم عصبةٌ على العينين وتقييدٌ لليدين، خطوات سبقت اقتياد العملاء لترمس من مكان الكمين إلى تل نحاس في بلدة مركبا. هناك حاول العميل روبين عبود إغراءه بالمال والحريّة، مقابل التعامل مع جيش لحد. أمّا الرد فكان خلاصة عزيمة شاب قرر أن يجلب لوطنه الحرّية ولو كلّفت حياته: "مش مقتنع بهالموضوع، ولو مقتنع ما بتلاقيني هون".
من تل نحاس نُقِل إلى جحيم معتقل الخيام، أول ما سمعه عبارة الشرطي: "الفايت مفقود والضاهر مولود". بيديه المقيدتين رُمي ترمس أرضًا ليتناوب العملاء على ضربه حتى صباح اليوم الثاني. كانوا كُثُرًا، لكن ذلك لم يمنع ابن بلدة طلوسة الجنوبية من تذكر أسمائهم، التي قد تكون بعضها أسماء وهمية يُنادَون بها: كايد، بيدو، عويجان، فارس بو سمرا، طانيوس نهرا، فؤاد عبلة.
في الأسر تعرّف ترمس الى خبايا المعتقل وأساليب الخداع هناك. أوّل من تعرّف اليه في السجن كان شابًا يدعى أحمد عليق. رآه يصلي، وما إن فَرِغ من صلاته توجه عليق بالسؤال اليه: كيفك يا "فلان"؟ أخبره أنه صائم ليوحي اليه بالتزامه الديني، ثم اختلق بطولات يسردها للأسير الجديد، محاولًا بذلك كسب "صداقته" وثقته، علّه يحصل منه على معلومات تتصل بالمقاومة. ليكتشف ترمس لاحقًا أنه لم يكن سوى أحد "عملاء الزنازين". كانت تلك "الطريقة الثعلبية" التي يعتمدها العملاء في المعتقل لسحب المعلومات من الأسرى.
معاناة غرفة الانفرادي مختلفة. طول الغرفة لا يتعدى مترًا ونصف، وعرضها حوالي نصف متر. الحمام فيها عبارة عن "سطل" صغير. فترة الجلوس في هذه الغرفة قرابة الخمسة الى ستة أيام قبل بدء التحقيق. ولفترة التحقيق تلك ألمٌ منفرد. يشكو ترمس الحالة النفسية المدمرة التي عاشها بعض الأسرى، والمصير المجهول الذي ينتظر الأسير. كان ترمس قد أُحيط مسبقًا ببعض أساليب وطرق التعذيب التي يعتمدها الإسرائيلي ونقاط الضعف التي يكز عليها. هُدد ترمس خلال التحقيق بهدم منزله وتعرّض للشتم. كانوا يعتمدون المكر والخبث للاستدراج، فتارة يأتون بمحقق "إيجابي"، يحدث الأسير بهدوء ويشعره بـ"الراحة" وكأنه يريد مصلحته، وتارة أخرى يأتون بمحقق "سلبي" شرس يعتمد الأذى والضرب المبرح دون أي اعتبارات. خلاصة كل الأساليب كانت عجزًا عن أخذ ما يريدون من الأسير ترمس.
بعد التحقيق، وُضِع تُرمس مع خمسة أشخاص في غرفة صغيرة، بحمّام عبارة عن "سطل" يقومون بتغييره كل ثلاثة أيام، وابريقين فقط من المياه "يجب" أن تكفيهم لمدة يومين. أبشع صور المعاملة اللاانسانية تلاقاها الأسرى في ذلك المعتقل. كان الطعام يُرمى اليهم من تحت الباب، فيكون عبارة عن وجبة لشخص واحد، يتقاسمها خمسة أفراد داخل الزنزانة.
عند سماع قصة الأسير ترمس، تستغرب لبسمةٍ رقيقة ترتسم على وجهه فجأة. تطرأ الى ذاكرته بعض الصور "الجميلة" في ذلك الشريط
السوداوي الطويل. كانت للروحية الدينية والثقافية بين الأسرى دورٌ هام في تلك المرحلة. كان هناك شبان من مختلف الديانات، لكنهم في شهر رمضان يتشاركون في الصوم مواساةً لبعض زملائهم. "الصبر" كان سلاحهم الوحيد أمام جلّادين لا يعرفون شيئًا من الرحمة. عندما كاتنت المقاومة الاسلامية تنفذ عمليات ضد العدو الصهيوني في الجنوب، كان الأسرى "فشّة خلق" العملاء.
ذات نهار، كان الأسيرين ترمس وشريف عطوي في الزنزانة يتبادلان الأحاديث بصوت منخفض، حين دخل العميل انطوان حايك ليتعرض اليهما بالضرب المبرح، هكذا دون سبب أو انذار.
كان ترمس مشاركًا في انتفاضة 1989 في معتقل الخيام. في ذلك اليوم قرر الأسرى الإضراب عن الطعام لتحصيل بعض الحقوق الانسانية. كان العميل عامر الياس الفاخوري حاضرًا. اضافة الى الاضراب عن الطعام قام الأسرى بضرب أبواب الزنازين بطريقة "جنونية" تعبّر عن ما في القلوب من ثورة وألم، حتّى تخلعت بعض الأبواب. صرخات "الله أكبر" كانت تهز المكان. أخرج حينها العميل فاخوري مسدسه، أطلق ثلاث طلقات، ثم أمر بإلقاء القنابل الدخانية داخل ممر الغرف، في مساحة لا تتعدى الـ 500 متر. في تلك اللحظة اختفى الأسرى عن أعين بعضهم، وانعدمت الرؤية تمامًا. بعد القنابل الدخانية تلقى الأسرى قنابل الغاز. كان ترمس يتلوّى أرضًا من شدة الاختناق - كما الكثير من الأسرى - كعصفور يودّع الحياة. بإشراف من العميل الفاخوري وبأوامر منه، ارتقى شهيدان في تلك الانتفاضة هما: الشهيد بلال السلمان، والشهيد ابراهيم ابو العزّ.
هم "عبدة مأمورون تربوا على أيادي إسرائيلية، لطالما أرادت منهم "اسرائيل" أن يكونوا "دشمة" يؤمنون الحماية لها"، بهذه العبارة يصف الأسير المحرر أمين ترمس لموقع "العهد" الاخباري العملاء الذين تعاقبوا على تعذيبه في معتقل الخيام جنوب لبنان.