خاص العهد
شهادة حيّة على أقسى عمليات التعذيب في معتقل الخيام
ايمان مصطفى
تحسس في زنزانته المظلمة آثار البراز والبول والقيء. لم ير شيئًا من هذه القاذورات لشدّة ظلام ذلك "القبر"، لكنه اشتم رائحتها. جلس ملتويًا محاولًا تطويع جسده ليتلاءم وضيق المكان. الى جانبه دلو بلاستيكي لقضاء الحاجة. حاول النوم؛ لكن الماء قُذِف اليه من حيث لا يحتسب، من تحت الباب. امتلأت الزنزانة حتى فاض الماءُ فيها. تبلل فراشه - الاسفنجية الرقيقة - وطافت حوله القاذورات تحيط به، كقدر تعيس أراده له سجان معتقل الخيام.
لا ينسى الأسير المحرر من معتقل الخيام جعفر ذيب أيًا من تفاصيل تلك الأوقات العصيبة. أيام وليالي أمضاها ابن الـ19 ربيعًا رهينة جلادين لا يفقهون من أبجدية الانسانية حرفًا. كيس مظلم يغطي رأسه بما يحويه من روائح كريهة، مكبل اليدين الى الخلف، وعصبة مشدودة على عينيه. التحقيق الأول في معتقل الخيام هو على يد العميل "أبو عرب فاعور": ما اسمك؟ كم عمرك؟ تحدث عن عائلتك وأقاربك؟ هل فيهم عسكري؟". يبدّل العميل في أسلوب تحقيقه مع الأسرى بين اللين تارة والقسوة تارة أخرى. أقصى مراحل اللين تتمثل في قوله: "نصيحة..احكي يا ابني عشان ما تتعذب".
يعود ذيب بالذاكرة في حديثه لموقع "العهد" الاخباري الى التحقيق معه داخل الأراضي المحتلة. حيث سيق الى هناك قبل نقله الى معتقل الخيام. "ما رح يمشي حالك هون رح نبعتك عند كلابنا بالخيام"، رسالة حفظها جعفر جيدًا من قبل الاسرائيليين في فلسطين المحتلة، قبل أن يُعاد الى المنطقة المحاذية لبلدة كفركلا في جنوب لبنان (المطلة حاليًا). العميل حسين عبد اللطيف العبد الله كان قد اقتاد ذيب من قريته بلاط - قضاء مرجعيون - الى الأراضي المحتلة في شباط عام 1991 للتحقيق معه. هناك، عجز ثلاثة ضباط من المخابرات الاسرائيلية عن الوصول الى مبتغاهم معه، فأوصلهم الى طريق مسدود. فكان آخر ما سمعه منهم: "ما في اعتراف، الى كلاب معتقل الخيام".
يدرك ذيب جيدًا أن السجانين الذين يواجههم هم من أبناء وطنه. يحفظ أسماءهم جيدًا كريم ذياب، وديع الحوراني، يحيى منذر، وليد ماجد، ماهر حمود، وغيرهم. الجلادون كذلك حُفرت أسماؤهم في ذاكرته أيضًا: جان توفيق الحمصي، عصام جروان، الياس بطرس سعيد، بشارة نصر، احمد السيد، وغيرهم.
خلال التحقيقات سُئل ذيب عن المقاومة، عن أفراد في الجيش اللبناني، أو في قوى الأمن. بنظر العملاء جميع هؤلاء أعداء. لكن ذيب لم يضعف، لا اعتراف ولا هوان ولا ضعف.
أساليب التعذيب على أيدي العملاء في معتقل الخيام كانت كثيرة. ذات ليلة، عُلّق ذيب على عمود حديدي في الخارج، حيث ضربه العملاء بعصا الرفش. كانت ليلة طالت فيها الأوجاع حتى ساعات الفجر الأولى.
أيامٌ قضت، والجسد المنهك يتلقى الضرب، والركل، والرمي بالماء البارد ثم الساخن، والجلد بالكرباج، وصعق بالكهرباء. كل هذا وكلمة واحدة تتردد على لسان الشاب: "يا الله". كان العملاء يُطرَبون لأنين الأسرى. "الآخ" كانت هدفهم، فكان جعفر في المقابل لا يصرخ الا "يا الله". يقول: "لن أعطيهم الفرصة للتلذذ".
الجلاد اسشتاط غضبًا فشتم أهل ذيب، تمالك الشاب الأسير نفسه. انتقل الجلاد الى شتم العزة الالهية والأئمة، إنها حرب المعنويات. هنا بدأ ذيب يفقد بعضًا من عزيمته "اشتمني واشتم أهلي ولكن لا تقترب من عظمة الله وأهل البيت". في لحظات الضعف، لم يكن لذيب سند سوى استذكار واقعة الطف، فيجد فيها صبرًا على الألم.
انه يوم السبت، النهار المشؤوم في المعتقل. يتسمرّ أفراد شرطة المعتقل أمام قناة "الشرق الأوسط" لمشاهدة المصارعة الحرّة التي تعرض أسبوعيًا. يتعلمون "الحركات الجديدة" (من حركات "Big Splash" و"Bell clap" و"Overhead chop" وغيرها) ويطبقونها على الأسرى. يتفننون بألوان التعذيب.
التعذيب في الأسر لا ينحصر فقط في دائرة الضرب، بل يتعداه الى التفاصيل اليومية القاسية. 3 دقائق فقط هي المدة المسموحة للأسرى للاستحمام. في حال تجاوز الأسير هذه المدة يتم الزامه بالخروج فورًا من مكان الاستحمام "ولو كان الصابون على رأسه". "يا ويلو الأسير اذا نقط نقطة مي على أرض الكاردور"، حينها سيجد العميلين جورج كرم وانطوان الحايك بالمرصاد، يتلقونه بالضرب والجلد.
هي بضعة صور من ذاكرة الأسير المحرّر جعفر ذيب، ينقلها الينا عن فترة أسره في معتقل الخيام مطلع التسعينات. لم ينس ذيب العميل عامر الياس الفاخوري وأمثاله. "جزار الخيام" هي صفة لازمت الفاخوري منذ التسعينيات لانه يعذب بوحشية، وليست توصيفًا طارئًا. يسأل ذيب مستنكرًا: "لماذا نحتاج الى الاعتصامات من الأصل للمطالبة بمعاقبة هؤلاء؟ كيف يعود هؤلاء الى لبنان بلا محاكمة أو بمحاكمة جرى عليها تقادم الزمن؟
يخلص ذيب الى أن "لدينا من القمامة ما يكفي في لبنان لا نحتاج للمزيد منها، خصوصًا أنها تحتوي عدوى الخيانة الجرثومية التي ستنتقل الى أشخاص مناعتهم ضعيفة".