آراء وتحليلات
أزمة ترامب وعقدة الاتفاقيات الدولية
عبير بسام
ملفت حجم الانسحابات التي قام بها دونالد ترامب من الاتفاقيات الدولية التي عقدت في عهد سلفه باراك أوباما. وقد ينظر البعض إلى أنها نكايات شخصية ما بينه وما بين إنجازات أوباما، الأمريكي الأفريقي الأول الذي يصل إلى سدة الرئاسة الأميركية. وقد يعود ذلك إلى الصراع الأزلي ما بين الجمهوريين والديمقراطيين، ولكن في حقيقة الأمر فإن ما يقوم به ترامب لا يقرأ إلا من باب الصراع على السلطة الاقتصادية الأحادية للولايات المتحدة على باقي دول العالم.
مكنت السياسة الاقتصادية التي اتبعها اوباما من استنهاض الاقتصاد الأميركي جزئياً وخفضت نسبة البطالة من 10% في العام 2009 إلى 5% في 2017. ولكن سياسة أوباما لم تستطع ردم الفجوة التي أصابت الطبقة المتوسطة. والأهم من ذلك، فإن سياسة أوباما خفضت الدخل لدى أبناء هذه الطبقة والذين أغلبيتهم من الأنغلوساكسون المشيخيين الذين ينتمي إليهم الأعضاء الجمهوريون في الكونغرس الأميركي. ويرى هؤلاء أن سياسة أوباما الاقتصادية والعلاقات التجارية، التي أقامها ما وراء المحيط الأطلسي، كانت السبب الأساس في تراجع نمو معدل هذه الطبقة إلى ما كانت عليه قبل الانهيار الاقتصادي في زمن بوش الابن، وبالتالي إلى التراجع في سوق العقارات، أي في سوق ترامب.
قد يبدو الأمر وكأن أمريكا في عهد ترامب تميل نحو سياسة الحرب الباردة، التي عاشتها مع المعسكر الشرقي أكثر من ثلاثين عاماً. هذه السياسة التي أدت إلى الانهيار الاقتصادي للاتحاد السوفيتي والمنظومة الشرقية، بسبب حالة الانعزال السياسي والاقتصادي ما بين منظومتي المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي. وهذه السياسة اليوم لا يمكنها أن تؤتي أُكلها، لأن تقسيم العالم لم يعد بالبساطة التي عهدناها ما قبل انهيار جدار برلين في العام 1989. اذ يعتقد ترامب أنه بخروجه من الاتفاقيات الدولية سيتسبب في انهيار العالم اقتصادياً، خاصة وأن العالم يعتمد على الدولار في المبادلات التجارية وفي تجارة العملات وبذا يمكنه إعادة أمريكا لتعتلي قمة العالم مجدداً، بينما تهرول باقي الدول نحوها من أجل كسب ودها. ويبدو أنه عاجز عن قراءة التغيير في التحالفات والمعاهدات الدولية في القرن الحادي والعشرين، وأن التقنيات الحديثة لم تبق حكراً على دولة دون أخرى؛ والدليل على ذلك هو حجم الدعاوى المقدمة من "أبل" ضد "سامسونج"، والتي تدفع بسببها "سامسونج" في كل مرة ملايين الدولارات كتعويض، ولم يمنع ذلك الأخيرة من الاستمرار بسياساتها في تطوير تقنياتها.
صحيح أن منظمة التجارة العالمية أسست في العام 1995، غير أن المنظمة وقّعت بين الدول الأعضاء اتفاق تيسير التجارة العالمية في العام 2013. وهذا الاتفاق يضمن حرية التجارة وتبادل السلع بحسب مصلحة كل دولة من الدول المشاركة. وتشير الإحصائيات إلى أن دول الاتحاد الأوروبي وبخاصة ألمانيا تحقق أرباحاً تجارية تصل إلى 250 مليار دولار سنوياً، بينما بلغت خسائر الولايات المتحدة 500 مليار دولار سنوياً. هذا إضافة للأرباح المتزايدة التي تحققها الصين. ويرى ترامب في ذلك سحباً للبساط من تحت قدمي أمريكا العظيمة، وبناء عليه جاء تصريحه الأخير بالتهديد بالانسحاب من المنظمة إن لم تعدل قوانينها.
ببساطة لم تعد البضاعة الأمريكية هي الأولى عالمياً، وبات المستهلك حول العالم يفضل أي منتج بديل لا يدفع فيه ثمناً باهظاً لليد العاملة الأميركية والأوروبية. وفي كل يوم يزداد عدد المصانع المغلقة في الولايات المتحدة وبالتالي يزداد معدل البطالة، وخاصة ما بين الأميركيين البيض، الذين اعتادوا قبض الرواتب العالية، وهم الذين يمثلون الناخب الأميركي، الذي يعتمد عليه ترامب في نجاحه في الانتخابات المقبلة.
الانسحابات الأميركية المتتالية من الاتفاقيات التجارية الدولية باتت مقلقة، وتطرح أسئلة حول ما لذي تبغيه أمريكا من الخروج المتتالي منها. فهذا الخروج الأحادي يضعف الثقة بقدرة الولايات المتحدة على الحفاظ على تعهداتها واتفاقاتها الدولية، وقدرتها على ضبط النفس والكف عن التصرف كصبي أرعن يريد امتلاك كل شيء دون أن يترك شيئاً حتى لأخوته "الأوروبيين". وهذا أحد الأسباب الهامة وراء الخروج من الاتفاق النووي الإيراني، ووراء الدفع ببريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي. اذ يبدو أن أميركا لا تستطيع الاستفادة منهما على صعيد التجارة والاقتصاد، ولا حتى من خلال السمسرة.
والأمر الثاني الذي تسببه الانسحابات هو تضعضع الثقة بالدولار كعملة يمكن العمل بها، وخاصة مع العقوبات التي تفرضها أمريكا اليوم على دول العالم. وأما الأمر الثالث، فإن أمريكا من خلال تهديد الشركات الأوروبية التي تحاول الاستمرار بعلاقاتها التجارية مع الدول التي تفرض عليها العقوبات الأميركية، تضع استقلالية علاقاتها الدولية موضع التساؤل. اذ أعلن لافروف في 13 نيسان/ أبريل، أن الاتحاد الأوروبي لم يعد الشريك التجاري الأول لروسيا، بل هو رابطة الدول المستقلة ودول منطقة آسيا والمحيط الهادئ وبريكس، وأعلن أن مشكلة بريكس أنهم يتعاملون بالدولار. ودعا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 28 حزيران/ يونيو الماضي إلى عودة التعامل بالعملات الوطنية.
الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي فاقم الصراع الدولي في وعلى الخليج العربي، وعرض سلامة الملاحة للخطر. أي أن التهديد الأمني في منطقة الشرق الأوسط بات أمراً مطروحاً، ولولا تنبّه دول العالم إلى خطر الحرب في منطقة الخليج، وبخاصة على وجود اسرائيل، فإنه كان من الممكن أخذ المنطقة إلى حرب طاحنه. وتزامن خروج الولايات المتحدة من اتفاق الشراكة الاقتصادية عبر المحيط الهادئ، مع عدم قدرتها على منع شركائها وخاصة في الصين من مواصلة تعاملها التجاري مع إيران وتجاهل العقوبات الأميركية، وهذا ما دفع الولايات المتحدة لاستحضار أزمة هونغ كونغ، وإعادة فتيل الأزمة ما بين الهند وباكستان حول كشمير. اذ يبدو أن ترامب يظن أنه بخروجه من الاتفاقيات الدولية والتدخل في الشؤون الداخلية لمعارضي سياساته وتقويض أمنهم وسلامتهم سيمكن أمريكا من استعادة مكانتها المتدحرجة هبوطاً عن قمة دائرة الحظ.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024