إنا على العهد

آراء وتحليلات

في الوداع وإلى الملتقى
21/02/2025

في الوداع وإلى الملتقى

يسير العالم بخطًى وئيدة، تجاه الثالث والعشرين من الشهر الحالي، حيث سيتوقف الدهر دهرًا، وستنفجر القلوب قهرًا، وسيبدأ يومٌ لن يكون العالم بعده كما قبله، عالمٌ لا صوت للحق فيه يصدح، ولا إلى فلسطين عينٌ تنظرُ، عالم لا سبّابة فيه تشير إلى القدس غايةً، وحين تُرفع يصطفّ العدو وقوفًا وترقبًا، نحو أثقل أيّامه يسير العالم بلا أقدام، ويُسرع الوقت بلا عقارب.

يا أيّها السيد الذي أسرع الخطى نحو غايته، كم كنت حثيث الخطى، كم رأتك الجموع وأنت تحثّ خُطاك، فتهتف لك الحناجر وتهفو لك القلوب، لكنها لم تكن تدرك أنّك إلى غايتك أسرع منك إلى غايتها، غايتك النصر والشهادة، وقد وصلت فحُزت الغايتين ففزت، بينما غاية الجموع بالصلاة خلفك في ساحات الأقصى تأخرت، تأخرت عنك قليلًا، خانتك تلك الغاية، فلم تكن حثيثةً مثلك، وكانت غاية لها مكرها.

مكرٌ سيجعل المثقلين بالعجلة، يجثون على جانب الطريق لهاثًا، فيما المتعبون من الصبر ستنهار أقدامهم قهرًا أو خيارًا، وستتخفف مسيرتك من المتسلقين والمتقلبين، الذين سيبدأون بالبحث عن الاستظلال بيابس الشجر. مكرٌ سيصفع كل المتسولين من ملوكٍ وحكامٍ وخدم، على أبوب القضية وأعتاب فلسطين، وكم قلت إنّ الله لا يعطي النصر لخليط، فيا أيها السيد، مكر هذه الغاية سيُسقط كل خليط.

كنت لفلسطين وكانت لك، فلسطين التي كنت لها، ليست هي فلسطينهم، فلسطينك كانت مصير أمة، فيما فلسطينهم كانت بندًا رتيبًا في بيانات القمة، فلسطينك كانت مرتكز عزٍّ ومنطلق وعد، فيما فلسطينهم كانت عبئًا ولعنة، فلسطينك كانت مسراك للحق ومعراجك للسماء، فيما فلسطينهم كانت وستظل هاويتهم نحو سحيق الذّل وغائر الشقاء.

أمّا فلسطين التي كانت لك، فهي تلك المآذن والقباب، وهي تلك الأرواح التي كنت لها ظلًا ظليلًا، مثمر الفكر وارف القلب، وهي نفوسٌ عاشت معك وبك انبلاج زمن الانتصارات، وغور زمن الهزائم إلى غير رجعة، فيما لم تكن لهم يومًا، لا تعرفهم، ومن تعرفهم منهم لا تطيق لهم اسمًا، بعضهم النكرات وبعضهم الإمعات، بعضهم مجهولو النسب، وأنسبهم أحطّهم وأحسبهم أوضعهم، وهم الآن يبحثون بأظافرهم، عن أفضل قبرٍ لفلسطين بقرب ثراك.

يريدونك آخر العهد بها، ويريدونك آخر ذكرياتٍ عنها، ويريدونها ضريحًا آخر، وفي أفضل الأحوال أندلسًا أخرى، نستذكرها كلما لسعنا هجير التيه، ونتذكرها كنكبةٍ مزمنةٍ لا مناص منها، يريدونها فاجعةً لا فكاك منها، والنار التي تكوي الأمة جيلًا فجيل، ويريدون منّا أن نشيعها معك ونبكيها معك ونواريها معك، ثم يبيعونا الذلّ معلبًا مغلفًا في أغلفةٍ من حرصٍ وحكمة.

 هم لا يعرفون أنك العهد يا سيّد، وأنّ فلسطينك هي الوعد، لا يعرفون أنّ الفقد العظيم يتجلى بفتحٍ عظيم، وأنّك في زماننا الفقد الأعظم، وستظل رجاء الفتح الأعظم، وأنّ الشمس لا تغرب إلّا لتشرق من جديد، وأنّ ما تركت من تركةٍ في نفوسٍ أبية، ستجعل من شمس انتصاراتك شموسًا، وستعلو كنجم نصرك الذي طمس أزمانًا من الهزائم.

لم يكن يليق بمثلك سوى هذا المسك من الختام، ولم يكن أحرى منك بهذه النهايات المشرقة، وليس أولى منك بطرق أبواب الفردوس فلسطين، فيا أيها السيّد الذي غادرنا في أبهى حلله، سيحرص التاريخ قطعًا، أن يتذوق قاتليك جحيم الإنكار والنسيان، كما سيحرص أن يفرد لك الأبهى والأنقى من الصفحات، فوداعًا إلى الملتقى الأقرب، في ساحات مسجدنا الأقصى، تحت ظلال حراب المقاومة وراياتها.

تشييع سيد شهداء الأمةإنا على العهد

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

التغطية الإخبارية
مقالات مرتبطة