آراء وتحليلات
السياسة الاستفزازية الاميركية ستؤدي الى تدمير الاقتصاد الأميركي
جورج حداد
منذ بداية عهده لبس دونالد ترامب قبعة "الكاوبوي" أو "الغانغستر" الأميركي ملوحاً بمسدسه في كل الاتجاهات، ومعطياً الانطباع أنه ذاهب حتما لشن الحرب: انسحب من اتفاقية الصواريخ النووية قصيرة ومتوسطة المدى مع روسيا، وهددها بضرورة الانسحاب من شبه جزيرة القرم، و"أرغى وأزبد" ضد كوريا الشمالية وبحجتها أرسل حاملات الطائرات والأساطيل الأميركية المسلحة نووياً الى بحر الصين في تهديد مكشوف للصين، وأعلن انسحاب أميركا من الاتفاقية النووية الدولية مع ايران مهدداً الجمهورية الاسلامية الايرانية بالويل والثبور اذا لم تغير نهجها السياسي الاقليمي.
ونظراً للتحالف الاستراتيجي بين روسيا والصين، وبين روسيا وايران، كان من الواضح أن اندلاع أي صدام اميركي ـ روسي، او اميركي ـ صيني، او اميركي ـ ايراني، كان سيؤدي فوراً الى اندلاع الحريق النووي العالمي الكبير.
وفي كل هذه الأجواء الترامباوية الدراماتيكية أو التراجيكوميدية كان العالم كله يلتقط أنفاسه ويراقب حركة شفتي دونالد ترامب ويتابع آخر تغريداته على تويتر.
وطبعا ان روسيا والصين وايران، بشعوبها العريقة التي تسحب وراءها تاريخا طويلا من النضال ضد النازية والامبريالية والرأسمالية واليهودية العالمية، اتخذت اجراءاتها الدفاعية الضرورية لرد الصاع صاعين وأكثر في حال اي عدوان اميركي عليها، ووقفت كالطود الشامخ لا تهزها قيد شعرة التهديدات الترامباوية الجدية او الهزلية.
ولكن حينما تكررت التهديدات الاميركية تأكد أنها ليست الا مسرحيات وزوابع غبار. وقد لخص الامام السيد علي الخامنئي الحال بكلماته الرصينة والحكيمة قائلا: انه لا تنازل، ولا تفاوض مع اميركا، ولكن ليس من حرب معها.
وتأكد بالملموس أن هدف أميركا من كل هذه المسرحيات "الحربية" الخطابية هو التهويل ليس على خصوم اميركا فقط، بل وعلى حلفائها واصدقائها لإرعابهم بقصد ابتزازهم واستحلابهم واجبارهم على دفع "اجور حماية" اميركا لهم. وينطبق ذلك على الانظمة النفطية العربية الخانعة، كما على دول "حلف الناتو" والاتحاد الاوروبي واوروبا الشرقية "ما بعد الشيوعية" وكوريا الجنوبية واليابان وتايوان وغيرها.
وشيئا فشيئا، بدأ يتضح أن هدف الادارة الاميركية من كل الأزمات الدولية التي افتعلتها والحروب الاقليمية التي شنتها، هو هدف مالي واقتصادي، لجمع الاموال لتدعيم الاقتصاد الاميركي المهدد بالانهيار. وبدأ ترامب ينزل من اعلى شجرة التهديد بالحروب النارية، الى الحروب التجارية والجمركية وفرض العقوبات الاقتصادية على الخصوم كما وعلى الاصدقاء. ولتأكيد "نزعته السلمية" اجتمع بالزعيم الكوري الشمالي، وبالرئيسين الروسي والصيني، واخذ يرسل الوسطاء ويستجدي الاجتماع بالقيادة الايرانية، دون ان يتخلى طبعا عن سياسة الاستفزازات، للمحافظة على جو التوتر العالمي وخطر الانفجارات الاقليمية من اجل الاستمرار في تخويف الاصدقاء والحلفاء وابتزازهم. وآخر ما انجزته المخابرات الاميركية والاسرائيلية على هذا الصعيد هو التفجيرات "السرية" المشبوهة التي وقعت للسفن التجارية وبعض ناقلات النفط في الخليج. ومن المضحك الفيلم الذي طلعت به بهذا الخصوص المخابرات الاميركية عن زورق حربي ايراني وهو يبتعد عن احدى السفن التي تم تفجيرها ويقول مخرجو الفيلم "الاذكياء" ان الزورق قام بتفكيك عبوة لم تنفجر في السفينة. فأين كانت الاساطيل البحرية والجوية وطائرات التجسس اواكس الاميركية لدى ظهور هذا الزورق الايراني؟ ولماذا لم يتم قصفه بدلا من تصويره؟
وفي سياق هذه السياسة "الاستفزازية" التوتيرية قامت اميركا في الاسبوعين الماضيين باستفزازين اقليميين جديدين هما:
الاستفزاز الاول ـ قامت الولايات المتحدة الاميركية مؤخرا بنقل حوالى الف جندي اميركي من المانيا الى بولونيا (على الحدود مع روسيا وبحر البلطيق ذي الاهمية الاستراتيجية القصوى). وهم ليسوا جنودا عاديين بل قوة متخصصة في تسيير واستخدام الدرونات (الطائرات بدون طيار) المخصصة للتجسس خلف خطوط العدو، والقادرة على حمل القنابل والصواريخ الموجهة وغير الموجهة. وكان يوجد في بولونيا حتى الان 4500 جندي اميركي. وتقرر زيادة هذا العدد خلال اللقاء الذي تم في البيت الابيض بين دونالد ترامب والرئيس البولوني آنجي دودا. وسيتم لاحقا زيادة هذا العدد حسب "الحاجة". وبموجب الاتفاق بين الرئيسين ستقوم بولونيا بتمويل انشاء البنية التحتية للقاعدة العسكرية الخاصة بهؤلاء الجنود بما في ذلك انشاء المطار الخاص بالدرونات. كما وقع الرئيسان اتفاقا تقوم بولونيا بموجبه بشراء الغاز المسيل الاميركي بدلا من الغاز الروسي الذي تشتريه الان باسعار ادنى بشكل ملحوظ من اسعار الغاز الاميركي. ويقول بعض المحللين المطلعين ان المهمة الرئيسية للدرونات الاميركية ستكون رصد وتخريب انابيب الغاز الروسية ومنشآتها التابعة لانبوب "السيل الشمالي ـ 1" وانبوب "السيل الشمالي ـ 2" المارة في اعماق بحر البلطيق من روسيا الى شمال المانيا، والتي سيتم منها توزيع الغاز الروسي الرخيص في اوروبا الوسطى والغربية.
ولا حاجة الى الكثير من الذكاء كي نكتشف ان هدف هذا الاستفزاز الاميركي على الحدود الروسية هو استدراج روسيا الى نزاع سياسي او مسلح مع بولونيا، لتوتير الاجواء في هذا الاقليم واجبار دوله على رفع ميزانياتها الحربية وتقديم الاموال لاميركا مقابل "الحماية من الدب الروسي"، وكذلك شراء الغاز المسيل الاميركي مرتفع الثمن بدلا من الغاز الروسي الرخيص.
الاستفزاز الثاني ـ وفي الوقت الذي كانت فيه "فرقة الدرونات" الاميركية تحط الرحال في بولونيا، قامت مدمرة اميركية والى جانبها ناقلة نفط، بعبور مياه الجزر الصغيرة المتنازع عليها بين الصين وتايوان، ومرت بالقرب من السفن الحربية وسفن الصيد الصينية، في تحد سافر لسيادة الدولة الصينية. والهدف من وراء هذا الاستفزاز هو التعجيل في استدراج النزاع المسلح المرتقب بين الصين الشعبية وتايوان، مما سيضطر تايوان لرفع ميزانيتها الحربية وزيادة الطلبيات على الاسلحة الاميركية ودفع المزيد من الاموال لاميركا مقابل "خدمات" الاسطول السابع الاميركي لحماية جزيرة تايوان الصينية الانفصالية.
لماذا تنتهج اميركا هذه السياسة الاستفزازية؟
الجواب المنطقي البسيط هو: لاجل الحصول على الاموال لدعم الاقتصاد الاميركي المزعزع.
ولكن الدول المستهدفة بالاستفزازات، وتحديدا روسيا والصين وايران، هي دول تمثل شعوبا حضارية عريقة.
والسياسة الاستفزازية الاميركية ستأتي بنتائج عكسية لاميركا، لان روسيا والصين وايران تمتلك مجتمعة اقتصادا اكبر واقوى من الاقتصاد الاميركي وهي ترد على اميركا بسياسة نزع الدولرة، اي استبعاد الدولار من المعاملات المالية والاقتصادية فيما بينها، وفيما بينها وبين دول اخرى تتعامل معها، كالهند وافريقيا الجنوبية وتركيا والمانيا وغيرها. وهذا سيؤدي تدريجيا الى زعزعة وتقويض امبراطورية الدولار. وعاجلا ام آجلا سيتشكل تسونامي من الدولارات الورقية فاقدة القيمة يكتسح الاقتصاد الاميركي ويدمره.
والى جهنم وبئس المصير اميركا واسرائيلها!
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024