آراء وتحليلات
عسكر تركيا في الشمال ودبلوماسيتها في بغداد!
في صبيحة يوم الخميس، التاسع والعشرين من شهر آب/أغسطس الماضي، أسقط سلاح الجو العراقي، مسيّرة تركية كانت تحلق في سماء محافظة كركوك التي تقع على بعد 270 كلم شمال العاصمة العراقية بغداد.
ولم تمر هذه الحادثة مرورًا عابرًا بالنسبة للسلطات العراقية، بل أحدثت إرباكًا ولغطًا كبيرين في داخل الأوساط السياسية والعسكرية، وتسببت بإعفاء نائب قائد الدفاع الجوي في كركوك العميد عبد السلام رمضان من منصبه، نتيجة إدلائه بتصريحات صحفية عن الحادث، وتأكيده أن المسيّرة التي سقطت كانت تعود لتركيا، هذا في الوقت الذي التزمت الأخيرة الصمت ولم تصرح بشيء، كأن الأمر لا يعنيها!.
ومعروف أن لتركيا وجوداً عسكرياً واسعاً في كردستان العراق وخارجه، يتمثل بعدد غير قليل من القواعد والمعسكرات الثابتة والمتحركة، ومقرات الاستخبارات، فضلاً عن الوجود ذي الطابع والغطاء الاجتماعي والثقافي والخيري والأكاديمي. وعلى مدى أعوام طويلة لم تتوقف العمليات العسكرية للجيش التركي على الأراضي العراقية، تحت ذريعة ملاحقة مقاتلي حزب العمال الكردستاني التركي المعارض (pkk).
والملاحظ أنه خلال الشهور القلائل الماضية، تصاعدت وتيرة تلك العمليات-برًا وجوًا-بحيث أنها ألحقت أضرارًا وخسائر بالغة بعشرات القرى والمناطق التابعة لمحافظتي دهوك وأربيل.
وإذا كان مشهد الطائرات التركية وهي تقصف مناطق حدودية، أو القوات البرية وهي تتوغل في عمق الأراضي العراقية، قد بات مألوفًا ومعتادًا، فإن استخدام الطائرات المسيّرة لتصفية بعض الشخصيات أو التجسس، في مركز محافظة السليمانية أو في سماء كركوك، يعد تطورًا خطيرًا، من شأنه أن يحدث المزيد من الإرباك والفوضى على مسرح الوقائع والأحداث.
ورغم أن الجانبين العراقي والتركي أبرما منتصف شهر آب/أغسطس الماضي، اتفاقية تعاون عسكري تتعلق بإنشاء مراكز قيادة وتدريب مشتركة، في إطار محاربة "حزب العمال"، بعد أن حظرت الحكومة العراقية الأخير، في العشرين من آذار/مارس الماضي، دون أن تصنفه منظمة إرهابية، كما كانت تريد أنقرة، بيد أن ذلك لم يمنع الأخيرة من التعبير عن ارتياحها لتلك الخطوة التي سبقت زيارة الرئيس التركي للعراق في الثاني والعشرين من شهر نيسان/أبريل الماضي.
وبينما جاء أردوغان إلى بغداد، وهو يبحث عن مكاسب تعزز نفوذه السياسي، وترفع الرصيد الجماهيري لحزبه -العدالة والتنمية- كان أصحاب القرار السياسي العراقي يأملون حلحلة الملفات الإشكالية المتمثلة بالمياه، وتصدير النفط، والوجود العسكري التركي على الأراضي العراقية، وعمليات القصف المستمرة. إلا أن شيئًا ذا قيمة لم يتحقق من تلك الزيارة. بل والأنكى من ذلك، أنه عشية وصول أردوغان إلى بغداد، كانت مناطق وقرى حدودية وغير حدودية عراقية تتعرض إلى قصف عنيف بالطائرات والمدفعية التركية.
بتعبير آخر، على طول الخط، كانت وما زالت تركيا تتحرك باتجاهين، أو تستخدم في تعاطيها مع العراق أسلوبين مختلفين كل منهما يختلف تمام الاختلاف عن الآخر، فهي في الوقت الذي تنشط دبلوماسيًا في بغداد، سواء من خلال الزيارات المتواصلة لكبار المسؤولين الأتراك والحوارات والنقاشات التفصيلية الساعية إلى تعزيز وتطوير العلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية مع العراق، أو من خلال سفارتها وسفيرها في بغداد، فضلاً عن قنصلياتها العامة في عدد من المحافظات والمدن العراقية المهمة، في ذات الوقت نراها لا تتوقف عن استخدام أدواتها ووسائلها العسكرية، ولا تكف عن تعزيز وترسيخ وجودها العسكري في كل مكان تستطيع الوصول إليه والحصول على موطئ قدم فيه على طول الجغرافيا العراقية وعرضها! حتى ليبدو أن "حزب العمال" ليس سوى ذريعة لأنقرة لتفرض وجودها وحضورها في العراق، ولو لم يكن هناك وجود لذلك الحزب، لجهدت نفسها لإيجاد ذريعة أخرى مناسبة.
ولعل من يدقق، يمكن له أن يعثر على العديد من التصريحات والتلميحات من ساسة ومسؤولين أتراك عن طموحات وخطط لإعادة إحياء الإمبراطورية العثمانية، وعدم التردد في الحديث عن تبعية الموصل وكركوك لتركيا.
وحتى لا نذهب بعيدًا لإثبات حقيقة ازدواجية أنقرة في تعاطيها وتعاملها مع العراق، واستخدامها المتزامن لقوة العسكر في الشمال، ومرونة الدبلوماسية في بغداد، وجدنا أن مسؤول ملف العراق في وزارة الخارجية التركية والسفير السابق، علي رضا كوناي، جال خلال الأيام القلائل الماضية برفقة السفير الجديد، أنيل بورا يونان، على مختلف الزعامات والشخصيات السياسية العراقية، باحثًا معها سبل تطوير العلاقات العراقية-التركية، وآليات حل ومعالجة القضايا العالقة.
وفي هذا الوقت بالذات، تصاعدت وتيرة العمليات العسكرية التركية في مناطق حدودية عديدة، ناهيك عن وصول المسيّرات التركية إلى كركوك، واستهدافها لشخصيات وكوادر في السليمانية، تزعم أنهم تابعون لـ"حزب العمال" أو متعاونون معه.
ولا شك أن هذا التصعيد هو الذي جعل رضا كوناي، يسمع من معظم من التقاهم في بغداد وجوب انسحاب القوات التركية من الأراضي العراقية، باعتبار أن ذلك يمثل المدخل الأساس لتصحيح مسار العلاقات بين الطرفين، بما ينسجم ويتوافق مع مصالحهما الوطنية.
واللجنة الأمنية العراقية العليا التي تضم وزراء الخارجية، والدفاع، والداخلية، ومستشار الأمن القومي، ورئيس جهاز المخابرات، من المقرر أن تزور تركيا قريبًا، وستركز في مباحثاتها مع كبار المسؤولين الأتراك على ضرورة إنهاء الوجود العسكري التركي في العراق، والبحث في سبل ووسائل واقعية وعملانية للتعامل مع ملف "حزب العمال".
لا شك أن الساسة العراقيين، والمسؤولين الأمنيين، أكدوا بصراحة وبشكل أو بآخر لنظرائهم الأتراك، حقيقة أن دبلوماسيتهم الهادئة في بغداد، من الصعب بمكان أن تغطي أو تخفي ما يقوم به عسكرهم في كردستان. وأن الحل لن يتحقق حتى لو جاء كل الجيش التركي لملاحقة عناصر "حزب العمال" في الأراضي العراقية، وأكثر من ذلك، أكدوا لهم أنه كلما زادت وتيرة استخدام القوة العسكرية، تعقدت الأمور وأكثر، واختلطت الأوراق بقدر أكبر.
ولكن هل ستتفهم تركيا ذلك وتدركه، أم أنها ستواصل نهجها العقيم الذي دأبت عليه طيلة عقود من الزمن دون أن تجني منه شيئًا؟
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
29/11/2024