آراء وتحليلات
أزمة مالية أم حرب عالمية
"أولئك الذين لا يتعلمون شيئًا من التاريخ محكومٌ عليهم بتكراره إلى الأبد".. ويل ديورانت.
لعلها من المرات النادرة التي يصدق فيها قول للبنك الدولي إلى هذا الحد. البنك سبق أن حذر من أن السنوات الحالية –عقب أزمة كورونا- هي سنوات هشاشة وغموض، وفي مناخ الشك والقلق بالنسبة لأسواق المال، على الأقل، فلا تسَل عن الانهيار لأنه قادم حتمًا. الأسئلة الرئيسة هنا تبقى عن المحفز أو السبب المباشر، ثم عن التداعيات حتى يحل التعافي من جديد، وأخيرًا عن نتائجها السوداء التي يتحملها في كل الأحوال أي إنسان خلاف الجناة، وفي المنطقة العربية ومع دولها التابعة والمرهونة للورقة الخضراء الأميركية الملعونة بالذات، فإنه من الواجب التوقف قليلًا لتصور حجم الأضرار المتوقعة مع العاصفة.
آخر التقارير الصادرة عن البنك الدولي "تقرير آفاق الاقتصاد العالمي لعام 2024"، وصل إلى ذروة التشاؤم والسوداوية بالنسبة لتوقعاته لمستقبل الاقتصاد العالمي خلال العامين المقبلين، خصوصًا مع أزمة مالية عالمية يعلم الجميع بوجودها، وإن حاولوا التعامي والتخفيف من وطأتها أو الإيهام بوجود حلول لها. البنك الدولي قدّر أن "التوقّعات مُظلمة" بالنسبة للاقتصاد العالمي.
بادئ الأزمة يعود –كما كل أزمة- إلى الشيطان الأكبر، الولايات المتحدة الأميركية التي ترقد على فوهة بركان ديون هائل، وقد تخطت قيمتها المعلنة وفقًا لبيانات الاحتياطي الفيدرالي نحو 35 تريليون دولار، تمثل نسبة 122.5% من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة، هذا الرقم ليس شأنًا أميركيًا خالصًا، فعملتها المهددة أيضًا لها نسبة هائلة من الاحتياطيات العالمية، إذ تصل حصة الدولار في احتياطيات النقد الأجنبي إلى 58.36% من تلك الاحتياطيات، وفقًا للبيانات الصادرة عن صندوق النقد الدولي، كما أن ارتفاع الديون الأميركية يرهق موازنتها بتخصيص 15% من النفقات لسدادها، وفي حال انهارت أوضاع الاقتصاد الأميركي فجأة، فإن الكل سيخسر، خصوصًا مع عدم نمو بديل دائم لعالم ما بعد الدولار.
واشتعلت أزمة أسواق المال العالمية مع تراجع أرقام التوظيف الأميركية، وارتفاع مستويات البطالة، مما أثار عاصفة من المخاوف من إمكانية دخول الاقتصاد الأميركي في حالة ركود، ونظرة المستثمرين حول العالم إلى "الاحتياطي الفيدرالي" بأنه تلكؤ في التدخل لدعم الاقتصاد لأنه لم يخفض سعر الفائدة، في الوقت المناسب، لتقديم طوق نجاة بشكل مبكر.
في العالم العربي نحن نعرف جيدًا تأثير أزمات الكبار فينا، تبعًا للمثل الأفريقي الشهير " عندما تتصارع الأفيال لا تسَل عن العشب"، وتجربتنا مع الأزمة المالية العالمية في 2008 لا تزال حية وحاضرة بالعقل، الأسواق المالية العربية انهارت فورًا إثر انهيار الأسواق المالية العالمية، بسبب خروج الاستثمارات المالية الأجنبية من الأسواق العربية نتيجة لما أصابها من خسائر في الدول الأم، كما أن الأزمة -بذاتها ولذاتها- قد خلقت مناخًا من الإحباط، أدى أثره النفسي لفقدان الثقة في الأسواق وفي الحكومات وفي البنوك المركزية، لوقت طويل، كما أن العديد من المؤسسات المالية العربية خاصة البنوك وشركات الاستثمار والتي منيت بخسائر في استثماراتها المالية في الأسواق العالمية، تأثرت أوضاعها المالية بشدة، مما انعكس بدوره على الأسواق المالية المحلية بالسلب.
"عبد الهادي": خصوصية ودلالات
يقول الباحث الاقتصادي د. مجدي عبد الهادي، في تصريحات خاصة لـ "العهد الإخباري"، إن هبوط البورصات الأميركية والأوروبية بالنسب العادية التي حدثت قد تبدو هينة، وقد تحدث وتتكرر، لكن ما يحمل خصوصية في وضع الانهيار الحالي هو السوق اليابانية بالذات، المؤشر الرئيسي لبورصة اقتصاد ضخم ومهم مثل اليابان (4.25 تريليون دولار) هوى بنسبة 12% في يوم واحد، أو نحو 20% في 3 جلسات فقط، هذا الهبوط هو الأكبر منذ العام 1987، وبتزامنه مع مخاوف سياسية واسعة، واشتباكات عسكرية في أكثر من نقطة ساخنة حول العالم، وإحباط المستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال، وهو هبوط تاريخي حتى إن نجحت اليابان في حصر آثاره مؤقتًا، فقد انطلق الفيروس من عقاله، ومن الصعب ضمان عدم توسعه للأسواق الأخرى، وهذان العاملان بالذات ليس هناك إمكانية لتحققهما معًا.
وعن تأثير الأزمة في الدول العربية، قال "عبد الهادي" إن الأزمات المالية العالمية لا تفرق في أضرارها بين دول نفطية أو فقيرة. الجميع سيتأثر سلبًا. والدول العربية مثل بقية دول العالم الثالث التي تُستخدم كمصدات للأزمات عن الدول الأغنى والأكبر، بمعنى أن الأزمات تصدر إلينا بكل قدر ممكن، في صورة تضخم، وإضعاف عملات، وانخفاض في الصادرات، وهروب رؤوس الأموال، وهذه الأسباب بدورها تؤدي لدائرة جهنمية جديدة من ضعف معدلات النمو والفقر والديون والكساد.
أضاف "عبد الهادي" أن الديون الخارجية تلعب دورًا خطيرًا، خصوصًا مع زيادة اعتماد بعض الدول العربية عليها كمصدر متاح لتمويل عجز ميزانياتها، إذ إن الغرب وأميركا عملا من جهة خفية على مفاقمة وتشجيع اتجاه الحكومات العربية للاستدانة، ووفرا لها بسهولة فرص للإقراض في فترات توافر فوائض مالية غير مُوظّفة، في ظل تشبّع القطاعات الإنتاجية وانغلاق أبواب التشغيل الاستثماري المُنتج في البلاد الأم، أي بصيغة أحدث وأكثر "ماكروية"، لكونها وسيلة لتعميق تبعية الدول الصغيرة الأضعف كفضاء رخيص لتفريغ آثار التقلّبات الاقتصادية الدورية لديها، وكوسادات لاستقبال الصدمات والارتدادات، الناتجة من مراحل الفائض والعجز في الدورة الاقتصادية الكُبرى؛ لتقليل وطأتها في المراكز الرأسمالية، ونقل الجزء الأكبر من أعبائها لتلك الأطراف الأضعف.
"السعيد": محنة وفرصة
يقول الدكتور مصطفى السعيد، السياسي والكاتب المصري الكبير، في تصريحات خاصة لـ "العهد الإخباري"، إن الاقتصاد الغربي عمومًا، والأميركي خصوصًا سقط في دوامة من الأزمات الحادة المركبة، وكان يعالجها بأدوات مالية، من خلال التمويل المفرط وطباعة النقود، أي تسكين الأزمات دون علاجها، فأخذت تترنح وتتخبط بين علاجات ناقصة، كان كل جهدها موجه لإخفاء أعراض المرض، لكن طفح الأعراض بدأ يتزايد، والعجز في الموازنات وعجز التبادل التجاري يرتفع بمعدلات أكبر فأكبر، والقطاع الصناعي يتقلص مقابل قطاعات الخدمات والمال، وراهنت واشنطن على تحويل الدولار إلى سلعة، بدلاً من كونه عملة أداة تبادل أو إدخار، واستخدمته في نهب الأموال من البلدان الأخرى، ولعب الدولار ومعه اليورو هذا الدور، لكن لا يمكن الاستمرار في هذا الرهان، وهذه الوسيلة اللصوصية إلى الأبد.
أضاف "السعيد" إن مأزق الرأسمالية "النيوليبرالية" هو السبب الرئيسي في هذه الأزمة، فقد عجز عن إيجاد مخرج لأزمة الرأسمالية ككل، بل زادها تعقيدًا بالتشخيص الخطأ والعلاجات بأدوية مدمرة لنظامها الاقتصادي وهيمنتها السياسية والعسكرية والإعلامية، وعندما تسارعت العولمة الاقتصادية بشدة مع التطور التقني السريع، فشلت خطتها في أن تستنزف البلدان الفقيرة من خلال التبادل اللا متكافئ، وأن تبيع لها المنتجات عالية التقنية المُحتكرة بأسعار هائلة، تستنزف مواردها، بينما تمكنت بلدان أخرى من الوصول إلى مستوى تقني عالٍ، وتمكنت دولة مثل الصين من اللحاق بل تجاوز البلدان الرأسمالية الأكثر تقدمًا.
وردًا على سؤال لـ"العهد" عن مستقبل الهيمنة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، مع وقوع الأزمة المالية الأحدث، قال د. مصطفى السعيد: "بخصوص تورط الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، أعتقد أن الولايات المتحدة مشدودة بين خيارين، الأول أنها تريد ألا تنجر إلى صراع في الشرق الأوسط وهي في حالة مواجهة مع كل من روسيا والصين، وأنها سعت إلى تأجيل ملف الشرق الأوسط إلى أن تنهي أحد جبهتي مواجهتها، وكانت الخطة الأميركية في أوكرانيا مبنية على أن الصراع لن يطول، وأن روسيا لن تصمد طويلاً أمام سيل العقوبات الاقتصادية والخسائر العسكرية، وأنها ستنهار في غضون شهور ليس أكثر، وأن روسيا سوف تنفجر من الداخل، وتقضي على حكم بوتين، وكانت قد أعدت الآلاف من منظمات المجتمع المدني، لتتولى القيام بثورة ملونة في روسيا، تهز نظام بوتين وتسقطه، لكن هذا السيناريو لم يتحقق، بل جاء بنتائج عكسية على الولايات المتحدة وحلفائها.
ويضيف: "أما في الشرق الأوسط فقد فوجئت بمعركة طوفان الأقصى، وهجوم السابع من أكتوبر، ولم يكن بمقدورها إلا أن تقف إلى جانب الكيان، لأن العلاقة بينهما عضوية، تختلف عن أي تحالفات للولايات المتحدة، فلا يمكن أن تتخلى عن الكيان تحت أي ظروف، لهذا أصبحت مضطرة لخوض معركة على جبهة ثالثة، وإذا ما اندلعت حرب واسعة، فسوف تنجر إليها حتمًا، إذا فشلت في احتواء الأزمة من خلال طرح أفكار وإعادة إطلاق أحلام حل الدولتين، لكن هذا الحل لم يعد مقبولًا لا من الفلسطينيين الذين اكتووا بتجربة "أوسلو"، ولا من حكومة العدو التي انتقلت السلطة فيها إلى أقصى اليمين المتطرف، فتقلصت فرص أميركا في المناورة، وأصبحت الحرب الواسعة أقرب من أي وقت، والتدخل الأميركي سيزيد استنزافها، وسيجعل من احتمال فوزها في الجبهتين الأوكرانية والتايوانية شبه مستحيل، وسيعجل من نهاية الهيمنة الأميركية اقتصاديًا وعسكريًا.
أخيرًا..
الخبرة التاريخية في ما يتعلق بالصراعات العالمية الكبرى، في العصر الحديث على الأقل، تؤكد أن الحروب الكبرى يتزامن معها أو يسبقها أزمات اقتصادية هائلة، مثل الارتباط بين الكساد العظيم والحرب العالمية الثانية، وفي هذا الوقت تحديدًا نشبت أزمة اقتصادية لا تزال تحبو في طور نموها الأول، بموازاة 3 حروب في بواكيرها، حرب في أوكرانيا بجوار قلب أوروبا، وحرب في الشرق الأوسط، قلب العالم، وصراع في تايوان حيث مصنع العالم الجديد "الصين"، وكلها مفتوحة على جميع الاحتمالات، والأطراف المتورطة كلها مأزومة، ودرس التاريخ الأول هو أن الحرب كانت وستظل سعي الإنسان مسلحًا بالحديد والفولاذ والنار إلى السيطرة على "الموارد"، تلك المفردة السحرية التي يحتاجها جميع الأقوياء اليوم، وليس غدًا.
الولايات المتحدة الأميركيةالاقتصاد
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
29/11/2024