آراء وتحليلات
وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا ۘ.. خطاب استراتيجي لتصحيح أخطاء شائعة كبرى
أقدم الأمين العام لحزب الله، سماحة السيد حسن نصر الله، على خطوة، في غاية الأهمية والخطورة، وهي التركيز على تناول القضية الفلسطينية والصراع عمومًا مع الصهاينة من منظور ديني.
لقد أقدم سماحته بالطبع على هذا التناول من منطلق توحيدي، وبتفسيرات مجمع عليها من جميع مذاهب الأمّة الإسلامية. ولعلّ أهم وأبرز ملف فيها هو ملف زوال الكيان، حين قرن سماحته بين التقدير الاستراتيجي للمقاومة بحتمية النصر وزوال الكيان، وبين الوعد الإلهي بالنصر وعقاب الصهاينة.
كان خطاب سماحته لجهة تناول تفاسير سورة الإسراء والآيات الكريمة المتعلّقة بإفساد بني "إسرائيل" بعد عُلُوهم مرتين، وتناوُلُ سماحته موضع الشاهد " وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا ۘ " هو زبدة الخطاب؛ لأنه يحلّ إشكالية طالما عطّلت العديد من القطاعات عن الانخراط في الصراع، وهي ترى الوعد بالنصر وعدًا مؤجلًا، يربطه بعضهم بحتمية اتحاد جيوش الدول الإسلامية ووحدتهم، ويفهمه بعضهم الآخر على أنّه في آخر الزمان وقُبيل القيامة، وليس وعدًا متجدّدًا حيًّا يرتبط بإفساد بني "إسرائيل"، وله استحقاق بالعقوبة على أيدي عباد الله المخلصين.
هذه القضية مع أنها تبدو دينية، إلا أن لها أبعادًا استراتيجية كبرى، بسبب عدد من الأخطاء الشائعة التي عطّلت الجهاد ضدّ الصهاينة، بل وربما خلقت أجواء من عدم مبالاة الجماهير بسبب الارتكان إلى أمور مؤجلة. وقد استغلت بعض التيارات هذه القضية لتؤجّل الجهاد بدعوى انتظار توفر القدرة، وبدعوى أنّ وعد الآخرة يتطلّب اجتماع الجيوش؛ بل وتغيير المسلمين بما في أنفسهم أولًا، ولذلك جرى التركيز على أمور شكلية من بعض التيارات وإعطائها الأولوية، على أساس أن المقاومة من دون توفر هذه الأمور هي عبث. وهنا؛ عُطّل الجهاد؛ لأن هناك شروطًا تتطلب وقتًا طويلًا وظروفًا أخرى، وبالتالي لا تتوافر شرائط التحرير لهزيمة الصهاينة.
إن كثيرًا من العامة، وغير المتبحرين في العلوم الدينية، يفهمون وعد الآخرة بأنه يوم القيامة وعلامات الساعة وبالتالي ستبقى "إسرائيل" إلى يوم القيامة. وكذلك بعض المفسرين المحدثين فسروا العلوّ الكبير بقيام الكيان "الإسرائيلي"، وأن وعد العقوبة الثانية هو إزالة الكيان، ولكن بشرائط تتوفر في عباد الله. وربطوا ذلك بالأمة كلها، وبأن يستقيم أفرادها بشكل جمعي حتّى تتوفر شروط تحقق الوعد الإلهي، بينما التفسير الذي اتبعه سماحة السيد هو أنه لا مانع من تحقق العقوبتين- كما اتفق المفسرون القدامى- وأن "إسرائيل" تنتظر عقوبة ثالثة على يد المقاومين، وهذا الجيل الذي عايش المقاومة وانتصاراتها و"طوفان الأقصى"، وأن موضع الشاهد في الوعد الإلهي هنا لا يرتبط حصرًا بالمرتين، وإنما بعودة الإفساد، وبالتالي وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا ۘ هو تجديد دائم للوعد الإلهي بالنصر.
المردود الاستراتيجي هنا يتمثل في عدة أمور؛ ومنها:
1 - هناك معادلة ردع متجددة، وهي أن عقوبة الإفساد هي المذلة والهزيمة والخزي على أيدي عباد لله يختصهم وينصرهم، وهم من يؤمنون بأن الله ينصرهم إذا ما نصروه، وإذا ما انحازوا إلى الحق.
2 - وقع هذا الخطاب على العدوّ وسط معركة كبرى هي الأطول في تاريخه، وتتميّز بأنها معركة وجودية. وعندما يسمع توصيف المقاومة للمعركة وتفسيرها للوعد الإلهي بالنصر، سيعلم مدى ثقة المقاومة وحماستها وإيمانها بالنصر، وهنا تسقط رهانات التخويف والإغراء، وهذا ما يُفشل أي رهانات أو مناورات.
3 - وقع هذا الخطاب على الشعوب وقطاعاتها التي لا تفطن لهذا الجانب المضيء والمتجدد من الوعد الإلهي، وهو ما يشكّل استفاقة لقطاعات مغيّبة وراء خطابات دينية مشوّهة لبعض فقهاء السلاطين أو فقهاء التكفيريين، وتعلم أنها مكلفة وعليها مسؤولية لعقاب المفسدين من بني "إسرائيل"، حتّى تنطبق عليهم شروط العبودية لله والشرف اللاحق بهؤلاء العباد عندما ينسبهم الله لذاته.
ارتاح العدوّ كثيرًا عندما ركنت الأمّة إلى أخطاء شائعة، ولم يحمل همًا لحمية الشعوب الدينية عندما تستولي على عقولها ووجدانها بعض تفسيرات أو انطباعات خاطئة عن تفسيرات أخرى، بينما ينتفض العدوّ رعبًا وقلقًا إذا ما جرى تصحيح عقيدة الأمة، وخاصة بهذه الطريقة التي اتبعها السيد نصر الله، حين اتبع إجماعات الأمة ولم يترك فرصة لأصحاب الفتن كي ينفذوا منها ليروّجوا أن هناك تفسيرات مذهبية ليمارسوا مؤامراتهم المعهودة في الفتنة وتشتيت الجماهير.
لقد أقامت المقاومة، وأقام السيد، الحجة عندما استعرض الصراع من جوانبه الإنسانية والأخلاقية والسياسية والاستراتيجية كافة، وتوّجها بجوانبه الدينية، وهي عادة المقاومة عندما تخوض أمرًا جللًا ومعارك كبرى، وعلى العدوّ الحذر والانتباه بعدما أقدمت المقاومة على هذا الأمر.
فلسطين المحتلةالسيد حسن نصر االلهجيش الاحتلال الاسرائيلي
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024