آراء وتحليلات
الكيان وأوهام "الإنشاء الثاني" للدولة
“إننا نفعل ما هو غير قانوني على الفور. يستغرق الأمر غير الدستوري وقتًا أطول قليلًا"
هنري كيسنجر
هذه المقولة لهنري كيسنجر تلخص البعد الثقافي والكثير من التفسيرات للسلوك الأميركي الكاذب والمنافق والذي دائمًا ما يعطي الغطاء الشرعي والسياسي للمخالفات القانونية والأخلاقية، والأدهى أنه يجرم الحقوق ويشوه أصحابها ويضفي عليهم صفات وألقاب المجرمين والإرهابيين.
والملاحظ لسلوك العدوّ الصهيوني بعد السابع من أكتوبر أنه استغل الحدث لإخراج مخطّطاته من أدراجها بما فيها مخطّطات التهجير وتصفية القضية، وأنه اخترع القصص والروايات الكاذبة والصور الملفقة لتسييد أكذوبة محرقة جديدة على غرار أكذوبة الهولوكوست والتي وظفها جيّدًا في إطار مشروعه الصهيوني لاغتصاب فلسطين وقام بابتزاز العالم للصمت على جرائمه التي فاقت جرائم النازية.
ولكنه رفع ذريعة المحرقة الثانية على أمل النشأة الثانية للكيان والتي يريد منها التصفية النهائية للقضية والتنصل من أي التزام بتفاوض حول أي دولة مهما كانت مقطعة ومهما كان حجمها وفقًا لفلسطين التاريخية، وكذلك الخلاص النهائي من مطالبات حدود 67 التي أصبحت مجرد شعارات للأنظمة الرسمية وحبر على ورق ملفات الأمم المتحدة.
وكما كانت بريطانيا بصفتها القوّة العظمى التي وعدت بإنشاء الكيان وسمحت بالمجازر وانسحبت من فلسطين لتتيح المجال لإنشائه، فإن أميركا التي تسلمت رعاية الكيان، تقوم بنفس الدور لهذه النشأة الثانية.
وكما استغل الصهاينة الظرف الدولي والحروب العالمية في ارتكاب المجازر وتهجير الفلسطينيين ومغازلة جميع القوى للدرجة التي جعلت الاتحاد السوفييتي يكون أول من يعترف به رسميًّا، واستطاع تسييد وهم كبير بأنه دولة اشتراكية وأن المغتصبات التي صادرها هي كيبوتسات شيوعية تقيم العدل الاجتماعي رغم تصدره لواجهة المشروع الاستعماري الرأسمالي، فإنه حاليًّا يحاول تسييد وهم الديمقراطية في محيط ديكتاتوري إرهابي ويحاول مغازلة الصين بجوار أميركا، بل ويسعى برعاية أميركا للتطبيع الإقليمي تحت عنوان تحالف ضدّ قوى الشر الممثلة في محور المقاومةّ!
ولا شك أن النشأة الأولى قامت على المجازر والتواطؤ الدولي، ومنذ بذور الاستيطان والهجرات الأولى إلى يوم إعلان الكيان في العام 1948، وما تبعه من حروب وما رافق ذلك من مجازر للتوسع الاستيطاني.
إلا أن الإحصائيات لهذه المجازر والتي سجلت في التاريخ كمجازر كبرى لا تقارن بما حدث بعد طوفان الأقصى من مجازر يومية.
وعلى سبيل المثال:
1 - على المستوى العام، تقدر الإحصائيات الرسمية الفلسطينية شهداء فلسطين في حرب العام 1948 بنحو 15 ألفًا، فيما يقدر عدد شهداء الجيوش العربية بما بين 3700 إلى 7000 جنديّ.
بينما أحدث الإحصائيات التي أعلنتها وزارة الصحة في غزّة، تفيد بارتفاع عدد الضحايا الفلسطينيين في الحرب "الإسرائيلية" على قطاع غزّة منذ السابع من أكتوبر الماضي، إلى 37 ألفًا و626، بينما زاد عدد المصابين إلى 86 ألفًا و98.
2 - على المستوى النوعي للمجازر، مجزرة دير ياسين في القدس في نيسان/أبريل عام 1948، التي ارتكبتها جماعتا أرجون وشتيرن في قرية دير ياسين الواقعة غرب مدينة القدس، وراح ضحيتها نحو 250 ضحية أغلبهم من كبار السن، والأطفال والنساء.
ومجزرة قريةَ طنطورة الواقعة جنوب مدينة حيفا في أيار/مايو 1948 خلفت أكثر من 200 شهيد فلسطينيّ دفنوا في حفرة كبيرة أو قبر جماعي أُجبر بعض الفلسطينيين على حفره وفقًا لصحيفة "هآرتس" "الإسرائيلية".
ومذبحة اللد في حزيران/ يونيو 1948، حين قام الجنود "الإسرائيليون" بمطاردة الفلسطينيين وإطلاق النيران والقنابل اليدوية داخل المنازل الفلسطينية والمساجد وغيرها، راح ضحيتها أكثر من 400 فلسطيني.
ومجزرة كفر قاسم تشرين الأول/ أكتوبر 1956، والتي وقعت في نهار بدء العدوان الثلاثي على مصر، 29 تشرين الأول/ أكتوبر 1956 ونفذها الجيش "الإسرائيلي" بعد فرضه منع تجول على القرى المجاورة للأردن. وقبل نصف ساعة من سريان قرار منع التجول، نفذ الجنود "الإسرائيليون" قرارًا "بإطلاق النار بنية القتل على كلّ إنسان يُشاهَد بعد الساعة 17 خارج البيت، من دون تفريق بين رجال ونساء وأولاد وعائدين من خارج القرية"، راح ضحيتها 49 فلسطينيًّا خلال ساعة واحدة فقط.
ومن يقارن هذه الأعداد بما يحدث من قصف لمربع سكني في غزّة أو مخيم للنازحين في رفح أو في قصف لمستشفى، فإنه يجد أن قصفًا واحدًا يفوق عدد ضحاياه هذه المجازر مجتمعة.
فقد كان قصف مستشفى الشفاء بمفرده وفقًا للمرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان من أكبر المجازر في التاريخ الفلسطيني، مقدرًا أن ما لا يقل عن 1500 شخص قتلوا أو أصيبوا أو اعتبروا في عداد المفقودين، "من بينهم النساء والأطفال الذين يشكلون نصف الضحايا". كما تؤكد المنظمة أن ما لا يقل عن 22 مريضًا قد أُطلق عليهم الرصاص أثناء وجودهم في أسرّتهم بالمستشفى، في حين يقدر عدد النازحين الذين لجأوا إلى المستشفى والذين اضطرّوا إلى الإخلاء جنوبًا، بنحو 25 ألف شخص، كما تم تدمير 1200 وحدة سكنية في محيط الشفاء.
وكذلك الحال في مجزرة النصيرات التي راح ضحيتها أكثر من 200 شهيد، وغيرها من المجازر اليومية.
نحن إذًا إزاء صناعة لنكبة جديدة يريد بها العدو نشأة ثانية للكيان، ولكنها هذه المرة غير محملة بقيود تقسيم أو دولة فلسطينية، ولكن تصفية تامة، ويتصور العدوّ أن الظرف الدولي وادعاءات المحرقة الجديدة في 7 أكتوبر والرعاية الأميركية والغطاء السياسي بما فيه الغطاء العربي الرسمي سيسمح له بتنفيذ مخطّطه وأن نتنياهو سيكون المؤسس الثاني وبن غوريون الجديد ولكن الأعظم بصفته أسس كيانًا أكبر وأقوى وأكثر تمددًا إقليميًّا!
ولكن فات العدوّ ورعاته أن هناك محورًا للمقاومة وأن الشعب الفلسطيني متمسك بأرضه ولن يهرب خوفًا من قصف أو مجازر، وأن معادلات القوى بالمنطقة تغيرت وأن قوى المقاومة غير محملة بالقيود الدولية ولا الفزاعات التي أرهقت الجيوش العربية.
هناك محور راسخ لا يخشى التهديدات ولا يطمع في الإغراءات وله بوصلة ثابتة هي التحرير، والذي يفضله بالاستنزاف والنقاط والتراكم الاستراتيجي، ولا يخشاه بالمواجهة الكبرى إن فرضت عليه فرضًا.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
29/11/2024