معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

اللحظة التاريخية الأنسب لإسقاط أهداف الحرب على الوعي
02/05/2024

اللحظة التاريخية الأنسب لإسقاط أهداف الحرب على الوعي

ما ينجزه عشاق نهج المقاومة أكبر بكثير مما قد يخطر على أذهان أكثر المتفائلين بزيادة وتيرة الانحسار التدريجي المتسارع للهيمنة الصهيو ـــ أميركية على المستويين الإقليمي والعالمي. وإذا كان الأداء العسكري الإعجازي للمقاومة الفلسطينية الباسلة قد أبدع في هندسة إشراقة شمس السابع من تشرين الأول/اكتوبر 2023م، وما أثمرته من تداعيات لمَّا تكتملْ فصول تبلورها حتّى الآن، فإن دخول حزب الله على خط جبهة الإسناد النشطة منذ 8/10/2023 قد هيأ البيئة المطلوبة لانضمام بقية جبهات الإسناد، وبخاصة عندما تبلور الموقف اليمني وظهر كمتغير جيوبوليتكي لا يمكن إسقاطه من حسابات جميع القوى الفاعلة على الساحة الإقليمية. وهذا يفسر الهستيريا التي أصابت حكومة نتنياهو وداعميها، وارتكاب حماقة ورعونة غير مسبوقة عبر التهور واستهداف مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق بشكل مباشر.

وجاء الرد الإيراني المشروع والموفق ليلة 13 و14/4/2024 ليرفع سقفًا جديدًا من الأمل الموضوعي المعرّش في شرايين وأوردة كلّ أنصار الحق والعزة والكرامة والسيادة، ممن يعتنقون المقاومة نهجًا وثقافة وسياسة أثبتت جدواها منذ لحظة اعتمادها قرارًا استراتيجيًا اتّخذته الدولة السورية من لحظة خروج مصر من ساحة الصراع العربي الصهيوني، وتكبيلها بنصوص كامب ديفيد وما تلاها، فكان لزامًا على الفكر الاستراتيجي التفتيش عن بدائل قابلة للاستثمار. وهذا ما أرست أسسه دمشق وعملت على بلورته ومنحه الزخم الكافي ليكون البديل الموضوعي شبه الوحيد، ولا سيما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتفرد واشنطن بالقرار الدولي وانكفاء القوى العظمى عن التفكير بلعب دور الند المكافئ والمستعد لتحمل فاتورة الندية التي تضمن بعض الاستقرار في العلاقات وموازين القوى إقليميًا ودوليًا.

باختصار شديد يمكن القول إن ما تشهده الجامعات الأميركية منذ قرابة الأسبوعين ليس وليد اللحظة، بل ثمرة طيبة نضجت على أغصان هذه المسيرة الحافلة بإنجازات المقاومة وارتدادات ذلك على شتّى مسارح العمليات وجبهات الاشتباك المفتوحة على صراع مزمن لا يمكن أن تكون نتائجه النهائية إلا قريبة من الحدود الصفرية، فإما أن يبقى مشروع الهيمنة والتشظي والانتقال بالمنطقة من سيء إلى أسوأ، وإما أن ينتصر محور المقاومة ومشروع إعادة بناء المنطقة وفق إرادة أبنائها وشعوبها بعيدًا عن الإملاءات الخارجية، وعن الأهداف الخبيثة التي لا يمل أصحاب المشروع الآخر من إعادة تدويرها وطرحها بلبوس جديد يحافظ على الجوهر الكارثي بشكليات جديدة مغرية ومستندة إلى قدرة واشنطن على تهديد الاستقرار والأمن في المنطقة والعالم خدمة لمصالح الكيان الصهيوني، والعمل بكلّ السبل الممكنة لإعادة تأهيل الكيان اللقيط ليستعيد بعض القدرة على ممارسة الدور الوظيفي المرسوم له قبل إنشائه وفرضه على المنطقة والمجتمع الدولي. وهنا تظهر أهمية الفصل الأخطر من فصول الحرب المفروضة المتمثل بالحرب الممنهجة على الوعي، واستلاب الإرادة بعد تخدير العقول والقناعات وطرائق التفكير التي تحدد طرائق السلوك. وقد يكون من المفيد هنا الإشارة إلى بعض النقاط التي قد تساعد على توضيح المطلوب، ومنها:

• التركيز على الإعلام والدعاية: منذ المراحل الأولى لتمدد الحركة الصهيونية تنبَّه مؤسسوها إلى أهمية الإعلام ودوره الفاعل والمؤثر أكثر من أي سلاح آخر، فقد جاء على لسان "ماكس نواردو" الساعد الأيمن لهرتزل في المؤتمر الصهيوني الثاني قوله: (إذا كان الذهب هو القوّة الأولى، فإن الصحافة هي القوّة الثانية، ولكن الثانية لا تعمل من دون الأولى... علينا بواسطة الذهب أن نستولي ونخضع الإعلام والصحافة والدعاية والأفواه، عندها نستطيع تحطيم حياة الخصم وأخلاقه وعائلته ودينه وفضائله... علينا تعكير صفو العلاقات الدولية بين الشعوب بلا انقطاع، وإثارة القلاقل والصراعات بينها وبين حكوماتها، وهذا لا يتم إلا من خلال الدعاية والإعلام...). والسؤال المشروع هنا: هل ما تشهد المنطقة منذ عقود تنفيذ حرفي لما طالب به "ماكس نواردو" أم لا؟

• أهمية عامل الوقت: من المسلم به أن الصهاينة وداعميهم ركزوا اهتمامهم الرئيس على ثلاثة قطاعات أساسية في أي مجتمع، وهي: المال والإعلام والتعليم العالي، ولضمان نجاح الإعلام في مهمته كان التركيز على تسخير القطاع المالي والمصرفي لتأمين المتطلبات اللازمة. وكان التركيز على التعليم العالي لضمان تجهيز الجيش المطلوب لغزو العقول وحرف البوصلة عن الاهتمامات الحقيقية ودفع الجموع للتركيز على ما يتم تسويقه من أضاليل وأكاذيب لخداع الرأي العام العالمي عبر الدعاية بأدواتها التقليدية سابقًا، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي حاليًا، مع التركيز على أهمية الوقت أكثر من أي أمر آخر، لأنه لا ضامن لأحد من إمكانية يقظة الشعوب من غفلتها وفهم حقيقة ما يجري، والعمل على قطع الطريق بأسرع ما يمكن. وهذا ما أكد عليه "مناحيم بيغن" في كتابه "الثورة" عندما قال: (يجب أن نعمل، ونعمل بسرعة فائقة قبل أن يستفيق العرب من سباتهم، ويطلعوا على وسائلنا الدعائية... إن الوقت بالنسبة لنا أثمن من المال والسلاح والعلم، إنه الحياة التي تستمد منها "إسرائيل" وجودها، فإذا ما استفاق العرب، ووقعت في أيديهم هذه الوسائل، وعرفوا دعاماتها وأسسها، عندها لن تفيدنا مساعدات أميركا، وتأييد بريطانيا، وصداقة فرنسا... عندها نقف أمام العرب وجهًا لوجه، ولا نعلم لمن تكون الغلبة)... والسؤال: أليست هذه النتيجة التي أخافت مناحيم بيغن، وحذر من خطورتها هي عنوان المرحلة الحالية من الصراع الوجودي؟

• في ضوء ما ذكر من المهم النظر إلى ما تشهده عشرات الجامعات الأميركية على أنه إخفاق غير مسبوق لكل المؤسسات المرتبطة بالرأس القاطر للدعاية الصهيونية، وبالتالي هو إنجاز لا يقل أهمية عما فرضته ملحمة "طوفان الأقصى" في غزّة، والرد الإيراني الحازم في "الوعد الصادق" وما سبقهما وتلاهما من فصول مواجهة خاضتها أطراف محور المقاومة بمسؤولية ومهنية وكفاءة انتقلت بتحصين الوعي المجتمعي من الإطار الداخلي الخاص بهذا الطرف أو ذاك من أقطاب المقاومة إلى العمل المثمر والناجح إقليميًا ودوليًا.

وليس هذا فحسب بل اقتحام الحديقة الداخلية الأميركية، وتعزيز ما تم إنجازه، وهذا أمرٌ مهمٌ جدًا، ومن المثمر البناء على هذه اللحظة التاريخية التي تؤكدها حالة الاضطراب والتوتّر المسيطرة على نتنياهو ومن حوله، إلى درجة اضطرّ فيها نتنياهو للظهور مباشرة وتسويق خطاب إعلامي عنصري بغيض، ويفتقر إلى ما يقنع العقل، وكلّ من له صلة بألف باء لغة الجسد/body language/ يدرك حجم التوّتر والاضطراب والخوف المسيطر عليه وهو يسوق أباطيله محذرًا من تنامي ما أسماه ظاهرة "معاداة السامية".

وسرعان ما رد على تخرصاته بروفيسور أميركي فَّند كلّ أكاذيبه مبرهنًا أن لا صلة لمعاداة السامية بالتظاهر الأخلاقي المشروع والواجب تفعيله ضدّ سياسة القتل الجماعي والإبادة العلنية التي تنتهجها حكومة نتنياهو، وهذا ما دفع المجرم الأكبر في "تل أبيب" إلى الاتّصال بالبيت الأبيض ومناشدة الرئيس الأميركي والجهات الفاعلة على الساحة الأميركية والدولية واستجداء الجميع العمل الفوري لوقف تداعيات هذا الطوفان الجديد، لأنه الأخطر على "تل أبيب" ودورها الوظيفي المتداعي.

مسارعة إدارة بايدن بالاستجابة، تبلورت بوضوح في زيادة استخدام العنف ضدّ المتظاهرين ومحاولة إخلاء الجامعات من التظاهرات التي أدت شبيهاتها إلى توقف الحرب الأميركية في فيتنام، وما تشهد الجامعات الأميركية اليوم يخمل قيمة نوعية مضافة لأن زخم التظاهرات وسرعة انتشارها تعكس الهوة الكبيرة والبون الشاسع بين جيل ناشئ استطاعت ثقافة المقاومة الوصول إليه ومخاطبته باللغة التي يستطيع استيعابها، وبين جيل المتصهينين جينيًا ضمن تيار "الأنكلو ساكسوني" الذي يعاني من تهاوي ما تبقى لديه من عوامل ردع وتخويف وإجرام وتقتيل ونشر للدمار، وما تبقى لا يرقى لأن يبنى عليه أصلا لضحالته، فضلًا عن زيادة فقدان القدرة على التعامل مع المستجدات وتسرب عوامل القوّة التقليدية كما تتسرب المياه من بين أصابع الكف المرتجفة. وهنا تتضح مسؤوليةٌ شخصيةٌ وعامةٌ، وأقرب ما تكون إلى فرض العين وليس فرض الكفاية على كلّ مؤمن بنهج المقاومة، ومتيقن بجدواها وأهميتها لإسدال الستارة على الأهداف الشريرة والخبيثة للحرب على الوعي، فطالما أن أكبر النوافذ قد فتحت على مصاريعها عبر بوابات الجامعات الأميركية، وبخاصة تلك الموجودة في "مانهاتن" التي تخرج الجيل القادم من القادة السياسيين والاقتصاديين وعلماء الاجتماع والمفكرين الاستراتيجيين وبقية النخب الفاعلة في شتّى مفاصل صنع القرار الأميركي، وبكل تأكيد سيعقب النجاح في الاستثمار بهذه اللحظة التاريخية أكثر مما قد يخطر على ذهن أي شخص كان، فبلسمة المناطق التي تأذت بتأثير كيّ الوعي الجمعي الأميركي بفعل ثالوث المال والإعلام والتعليم العالي المسيطر عليه من الفكر الصهيوني، وهذا أمر على غاية الأهمية، وليس مجرد كلمات تقال، بل هي ثمرة أخلاقية وإنسانية تخص المجتمع الدولي برمته، وما هو ممكن اليوم قد لا يكون كذلك غدًا.

خلاصة:

بعد نهاية الحرب العالمية الأولى تمكَّن الاستعمار الغربي من العودة واقتسام تركة سلطنة الرجل المريض، وفرض الوصاية على المنطقة تحت اسم "الانتداب"، وعندما دخلت القوات الغازية دمشق بعد معركة ميسلون توجه قائد الحملة الجنرال غورو إلى قبر صلاح الدين الأيوبي وركله برجله قائلًا: (ها قد عدنا يا صلاح الدين)، واليوم من حق كلّ مقاوم شريف، وكلّ  من يحمل قيم الحق والسيادة والعزة والكرامة ومواجهة قوى البغي والشر والطغيان في العالم أجمع ـ.. اليوم من حق الجميع أن يهتف ملء الفيه:
ها قد استفاق العرب والمقاومون وعشاق الحق والإنسانية في العالم أجمع، واطلعوا على أساليبكم الدعائية النتنة، وخبروا أضاليلكم وأباطيلكم وزوركم وبهتانكم، وتحصنوا ضدّ جميع الفيروسات التي استمرأتم حقنها في العقل البشري والوجدان الجمعي، وها هم يردون بضاعتكم إليكم من باحات الجامعات الأميركية والأوروبية وبقية جامعات العالم، وعبر جيل يرفض أن يكون جزءًا من إجرامكم وبطشكم ووحشيتكم وحرب الإبادة التي تعتمدونها ضدّ كلّ من لا يذعن لباطلكم المرفوض، والجميع مصمم على إسقاط أهداف الحرب على الوعي... نعم ها قد استفقنا يا "مناحيم بيغن" فما عسى أحفادك وأبناؤك وأتباعك وداعمو كيانكم المؤقت المجرمون فاعلون؟

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات