آراء وتحليلات
نظام رأسمالية الدولة الروسي بمواجهة النظام الرأسمالي الإمبريالي الغربي (2)
يقول عالم الاجتماع كارل ماركس "إن العنف هو قاطرة التاريخ". ويعلمنا التاريخ أن أي تحول تاريخي كبير، في أي بلد، إنما يتم في الأغلب بقوة السلاح؛ لأن القوى الاستعمارية والطبقات المالكة السائدة لا تتخلى بشكل سلمي عن امتيازاتها وسلطتها.
ومسار الأحداث في روسيا منذ الانفلاب الغورباتشوفي إلى اليوم يؤكد تمامًا المقولة ــ القانون لكارل ماركس:
ـــ فالتحول من "النظام البيروقراطي السوفياتي السابق" الموروث عن الستالينية، إلى نظام الخيانة الوطنية لـ"اليلتسينية" قد خرج من فوهات مدافع الدبابات التي قصف بها يلتسين البرلمان الروسي كما أسلفنا، بأمر مباشر من سيده الأميركي جورج بوش الأب. وفي تلك الساعات العصيبة وقفت روسيا على حافة الحرب الأهلية. ولكن قادة الجناح "المحافظ"، المعارض ليلتسين، تصرفوا بوصفهم "ام الصبي"، ومع أنّهم كانوا يملكون الأكثرية في البرلمان والحكومة، وفي قيادات القطاعات العسكرية والأجهزة الأمنية، فقد قرروا تجنيب روسيا الحرب الأهلية، وخرجوا من البرلمان رافعين أيديهم وسلموا أنفسهم لعصابات يلتسين ودخلوا السجن.
ـــ وفي الظاهر يبدو أن الانتقال من "اليلتسينية" إلى "البوتينية" قد تم بصورة سلمية. والواقع هو غير ذلك تمامًا. فقد أعطي بوريس يلتسين شخصيًا التعهد بعدم التعرض له ولأفراد عائلته، مقابل تنازله "السلمي!" عن السلطة. ولكن هذا التعهد لم ينسحب على مجمل الشريحة الاوليغارخية وأتباعها التي التحقت بالغرب. وبمراجعة التاريخ الروسي الجديد، وكيفية صعود وتركيب السلطة "البوتينية"، يمكن الاكتشاف أنه في السنوات الأولى من رئاسة بوتين منذ مطلع سنة 2000 وما بعدها، وقعت سلسلة طويلة من الحوادث المميتة والاغتيالات الغامضة التي قيّدت كلها ضدّ مجهول، وكان ضحاياها العشرات أو المئات من رؤوس الاوليغارخيا من المليارديرية من السياسيين الموالين للغرب ومن أصحاب الشركات والبنوك الكبرى ومن أصحاب ونجوم المؤسسات الإعلامية من كلاب الغرب وأذنابه. وفي تلك الأجواء المشحونة، فإن رجال الاوليغارخيا والنجوم الموالين للغرب، الذين حالفهم الحظ وبقوا على قيد الحياة، راجت في أوساطهم المخملية "موضة هاي لايف" جميلة هي التسابق لتشييد القبور الفخمة، حيث أخذ مختلف "النجوم" يوصون بأنفسهم على بناء قبورهم، وكان واحدهم يدعو أصدقاءه المقربين لمشاهدة قبره الفخم ويسكب الشمبانيا على بابه.
الرأسمالية في الكتلة الغربية في المرحلة الإمبريالية
في مرحلته الأعلى: الإمبريالية، يقوم النظام الرأسمالي الاحتكاري في جميع البلدان الرأسمالية الإمبريالية والتابعة لها، على قاعدة ملكية الأرض ووسائل الانتاج وميكانيزمات التوزيع والاستهلاك الشخصي والانتاجي، والاستيلاء على منتوجات عمل جميع المنتجين والمبدعين، مادّيًّا وعلميًا وفكريًا، ونهب ثروات الشعوب المستعمرة والتابعة وإفقارها وتجويعها.
وفوق هذه القاعدة الأساسية والرئيسية للإمبريالية تعمل ثلاثة مكونات ومحركات للنظام الرأسمالي الاحتكاري الإمبريالي العالمي هي:
1 ــ السوق، بمعناها الواسع: "الوطنية" والإقليمية والدولية، المالية والتجارية، ومحفزات وكوابح الانتاجية والتنافسية والمزاحمة الخ.
ومن خلال السوق تعمل بشكل أعمى وفوضوي جميع القوانين الاقتصادية للرأسمالية، التي يضبطها في الأخير "قانون العرض والطلب"، المرتبط بدوره بشكل أعمى وفوضوي بجميع تمظهرات الصراع الطبقي والنزاعات السياسية والقوميّة والدينية وغيرها، والانقلابات والثورات والحروب، وجميع الظواهر الناشئة عن التخريب الرأسمالي الوحشي للطبيعة، كتخريب وتلويث البيئة والاحتباس الحراري ونتائجه المدمرة، والظواهر الطبيعية كالزلازل والفيضانات وانتشار الأوبئة بشكل طبيعي أو "مفتعل".
2 ــ هيمنة الشريحة الطبقية الرأسمالية الاحتكارية العليا، التي تتكون بفعل الديناميكية الجدلية لـ"المزاحمة الحرة" في النظام الرأسمالي في مراحله الأدنى، والتي تفضي إلى الاحتكار في المرحلة الأعلى، كنتيجة للقانونين الأعميين:
ــ أ ــ قانون تركيز (concentration) الرأسمال الذي يؤول إلى التضخيم النسبي والمطلق للشريحة الأعلى من الرأسمال الكلي، الذي يصبح أشبه شيء بهرم مقلوب يقف على رأسه، أي أن "اسفل الهرم" يصبح هو الأضيق بالأرقام النسبية والمطلقة، في حين أن "أعلى الهرم" يصبح هو الأضخم. ولكن هذا هو نصف الصورة. أما الصورة بكاملها فإن هذا "الهرم الرأسمالي المقلوب" إنما يقف كله فوق العملية أو المسارية الانتاجية، التي لا وجود لها للهرم الرأسمالي الكلي، من دونها. وبمقدار ما يقترب الرأسمال المالي من العملية أو المسارية الانتاجية بمقدار ما بتضاءل نسبيًّا ومطلقًا؛ وبمقدار ما يرتفع ويبتعد عنها بمقدار ما يكبر ويتضخم نسبيًّا ومطلقًا.
وهذا يكشف تمامًا طفيلية ولاإنسانية وقذارة ووحشية الرأسمال المالي والنظام الرأسمالي برمته، الذي تعمل قوانينه باتّجاه إنتاج الرأسمال المالي وتضخيمه ضدّ مصلحة الجماهير الشعبية المنتجة بأسرها. (النموذج الأميركي يبين بوضوح فاقع ان الاقتصاد الأميركي هو اقتصاد مالي في الأغلب، حيث ان حصة الانتاج في الاقتصاد الأميركي العام لا تتجاوز نسبة 18%).
ــ بـ ــ قانون مركزة (centralization) الرأسمال الذي يؤول إلى التقليص التدريجي البطيء أو المتسارع لأعداد الرأسماليين الاحتكاريين الكبار، إلى أن ينتهي الأمر لأن يملك عدد ضئيل من الأفراد الطبيعيين أو التكتلات المالية القسم الأعظم من الرأسمال الكلي، ويتحكمون بمسار ومصير الحياة الاقتصادية لبلدان ودول وشعوب واقاليم كاملة وحتّى بمصير العالم بأسره.
وبفعل امتلاكها للحجم الأكبر من الكتلة الرأسمالية بكلّ أشكالها من الأموال المنقولة وغير المنقولة، فإن الشريحة الرأسمالية الاحتكارية تصبح هي التي تتحكم بالحياة السياسية والأمنية والعسكرية والاجتماعية والمعيشية للدول الإمبريالية والتابعة لها؛ وهي التي تسيطر على "المقدرات الوطنية" والنهج الجيوسياسي العام لتلك الدول.
وهذه الشريحة، بمحموعها وبكل "واحد" منها (شخصية طبيعية أو شخصية اعتبارية ــ مؤسساتية ــ حقوقية) تمتلك هامش استقلالية نسبية عن السوق، ويمكن لبعض أطرافها من كبار الرأسماليين الاحتكاريين، كأشخاص طبيعيين، أو كبنوك أو كشركات أو كتروستات، كبرى، أو كتكتلات رأسمالية معينة (كالكتلة الرأسمالية الاحتكارية العليا لليهودية، أو الاكليروسية الكاثوليكية، أو البتروــ إسلامية ــ عربية) أن تمارس التأثيرات على حركة السوق بشكل مفتعل.
ولكن في نهاية المطاف فإن القوانين العمياء للسوق الرأسمالية هي التي تقرر مسار النهج الافتصادي في كلّ بلد وفي جميع البلدان الإمبريالية والتابعة لها.
3 ــ مؤسسة "الدولة"، التي تمثل، مبدئيًا ونظريًا ودستوريًا وحقوقيًا وسياسيًّا، "الوطن" و"الشعب"، وتعتبر نظريًا مؤتمنة عليهما، وتمثل "كل الشعب" تجاه "كل مواطن"، و"كل مواطن" تجاه "كل الشعب". وتعتبر الدولة، أيضًا مبدئيًا ونظريًا ودستوريًا وحقوقيًا وسياسيًّا، مؤسسة عليا مستقلة، للجميع، وبالجميع، وفوق الجميع، أي فوق جميع مكونات "الشعب"، الحزبية والسياسية والطبقية والدينية والاتنية الخ. وبكلمات أخرى فإن الدولة هي "فوق السوق" و"فوق المواطن" و"فوق الشعب"، وحكمًا "فوق الشريحة الطبقية الرأسمالية الاحتكارية العليا".
وواقعيًا، فإن "الدولة" الإمبريالية ــ الرأسمالية تمتلك هامشًا معينًا من الاستقلالية النسبية عن "السوق" وعن "الشريحة الطبقية الرأسمالية الاحتكارية العليا". ولكن إذا وضعنا جانبًا مفهوم المبادئ والقيم الأخلاقية، الإنسانية والوطنية والدينية والحقوقية، فإن أبسط تحليل يقودنا إلى الاعتراف بأن الإمبريالية، المنبثقة من الرأسمالية، لا توجد ولا يمكن أن توجد إلا بالدوس على جميع المبادئ والقيم حتّى، وبالأخص، التي تتبنّاها وتنادي بها هي نفسها. ويقودنا أبسط تحليل، أيضًا، إلى أن نرى أن "الدولة"، في جميع بلدان الكتلة الإمبريالية وتوابعها، إنما تقع بشكل رئيسي تحت سيطرة "الشريحة الطبقية الرأسمالية الاحتكارية العليا"، وطنيًا، وعالميًا بالمشاركة والاندماج بين الإمبريالية الأميركية والطغمة المالية اليهودية العليا العالمية. وبكلمات أخرى فإن مؤسسة "الدولة"، في جميع بلدان الكتلة الإمبريالية الغربية وأتباعها، ما هي سوى أداة في يد الطغمة الرأسمالية الاحتكارية الكبرى، وعلى رأسها الطغمة المالية العليا اليهودية العالمية.
وجميع الأحزاب "الشرعية" و"النظامية" في تلك البلدان، الموالية منها و"المعارضة" للحكومة أو السلطة، في كلّ "دورة انتخابية" أو سياسية، ليست سوى "وكلاء" لمختلف أطراف "الشريحة الطبقية الرأسمالية الاحتكارية العليا"، التي تضطلع فعليًّا بدور "الحكومة العميقة" التي تحكم، من أمام الستار ومن خلفه، جميع البلدان الإمبريالية الغربية وأتباعها.
وبالرغم من جميع اشكال المنافسة والتناحر والنزاعات بين مختلف أطراف "الشرائح الطبقية الرأسمالية الاحتكارية العليا"، في مختلف البلدان، فهي في الوقت ذاته تشكّل جبهات موحدة إقليمية وجبهة موحدة عالمية تقودها الولايات المتحدة الأميركية والطغمة المالية اليهودية العليا العالمية. وفي البلدان الرأسمالية الإمبريالية الرئيسية تمتلك تلك الشريحة، بالرغم من جميع تناقضاتها الداخلية، "مجلسا أعلى" يرسم ويدير الخطوط العريضة للشؤون الجيوسياسة والجيوستراتيجية والجيواقتصادية الرئيسية للدولة. ويمكن لرئيس الوزراء أو رئيس الجمهورية أو حتّى الملك (في البلدان الملكية) أن يكون عضوا في ذلك "المجلس الأعلى" أو لا يكون. وكلّ من يخالف القرارات الرئيسية لهذا المجلس يتم شيطنته واستبعاده فورا أو حتّى تصفيته جسديا كما جرى لجون كندي في أميركا سنة 1963 الذي تمت تصفيته في وضح النهار، ولا يزال البحث جار لمعرفة الجاني حتّى اليوم، وطبعا لن يعرف.
ولكن بالرغم من كلّ شيء، وفوق كلّ شيء، ينبغي التأكيد انه، في المرحلة الأعلى للرأسمالية اي: الإمبريالية، فان "الدولة"، كما "الشريحة الطبقية الرأسمالية الاحتكارية العليا"، تبقيان خاضعتين لـ"السوق"، التي تتأثر وتخضع بدورها لكل التقلبات والثورات والأحداث والحروب والظاهرات الطبيعية المفاجئة، والتي تديرها و"تضبطها" القوانين الاقتصادية ـ السياسية العمياء للرأسمالية، التي تتمحور جميعا حول القانون الرأسمالي الرئيسي، أي قانون ضبط أو تحديد القيمة الانتاجية (المعبر عنها في الأسعار) عبر قانون العرض والطلب.
والدول الإمبريالية، بكلّ ما فيها من "أدمغة" ومراكز دراسات وأبحاث وتخطيط وبرمجة، لا تستطيع تغيير هذا الواقع، لأن الإمبريالية، المتصفة بـ"المركزية" الشديدة ومتزايدة الشدة، المنبثقة والصاعدة من المرحلة الأدنى للرأسمالية، أي رأسمالية "المزاحمة الحرة"، لا تستطيع تغيير الأساس الذي انطلقت منه، أي تغيير نفسها بنفسها، أي هدم وإعادة بناء نفسها؛ وأقصى ما تستطيعه هو أن "تجتر" نفسها بنفسها، أي أن تقضي على بعض أجزائها أو مركباتها، أي تقضي على بعض القطاعات الرأسمالية وعلى النظام الرأسمالي في هذا البلد أو ذاك، لتعود وتظهر اجزاء ومركبات جدبدة، و"نمور رأسمالية" جديدة، في حلقة دائرية من الصراع والفوضى والكوارث الاجتماعية، إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024