آراء وتحليلات
مشروعية الرد الإيراني وازدواجية المعايير الغربية
14 نيسان تاريخ مفصلي أرسى قواعد جديدة في حركة الصراع الوجودي مع الكيان الإسرائيلي المتواصل منذ 75 عامًا، تاريخ لا ينفصل عمّا حدث يوم 7 أكتوبر.. بل أتى مكملًا له، ومرتبطًا به، سواء من حيث الأسباب أو النتائج، فالرد الإيراني على استهداف القنصلية الإيرانية في سورية أتى بمثابة نقطة تحول، أفضت في البعد الاستراتيجي، إلى تغيير المعادلات وانقلاب موازين القوى في المنطقة بعد أكثر من 55 عامًا من التفوق الإسرائيلي على الدول العربية والإسلامية عقب حرب أكتوبر 1973، ما يعني أن ما بعد الهجوم الإيراني ليس كما قبله، وعلى هذا الأساس باتت واشنطن و"تل أبيب" أمام خيارين أحلاهما مر، الأول إما الذهاب لتوسيع رقعة الحرب أو التأقلم مع الوضع الجديد وابتلاع الضربة والإقرار بقدرة وموقع إيران ومحور المقاومة في المنطقة وأنها باتت الرقم الصعب فيها.
إذا أردنا اليوم أن نعلم حجم ما حفره الرد الإيراني في عمق الوعي العربي والإسلامي من جهة، وما خلّفه في المقابل من أضرار نفسية للعدو، علينا ألا ننظر إلى ما يكتبه الكتبة أصحاب الأقلام المأجورة بل إلى ما يقر به إعلام العدو. فهنا بيت القصيد، في مواجهة كلّ السرديات المضللة التي تحيكها الغرف الإعلامية السوداء، والتي مهما حاولت لن تستطيع تقزيم المارد الإيراني المستجد ولا أن تخفف من وطأة تداعياته المستقبلية، ولو حذت حذو حكومة العدوّ الصهيوني التي حاولت القفز فوق ما جرى بسردية هزيلة تزعم نجاح جيشها بالتصدي للهجوم الإيراني وإفشاله، وتحصر الأضرار وتصورها بأنها طفيفة، وفي ذلك هروب ودليل على عدم جرأة العدوّ على الرد أو تسويغ لرد شكلي استعراضي قادم.
ما حصل ليلة السبت الأحد لا يمكن قياسه بمعيار الأضرار المادية حصرًا، المقياس الأساسي هو البعد والأثر المعنوي الذي خلّفه مشهد الصواريخ والمسيرات الإيرانية في سماء فلسطين المحتلة، أثلج صدور العرب والمسلمين جميعًا، والفرحة العارمة التي ظهرت في مقاطع الفيديو التي صورت من داخل الأراضي المحتلة، عبّرت بشكل واضح عمّا يختلج في قلوب الأمة من مشاعر وارتباط بقضيتها الأم فلسطين، ومشاعر غضب وانتقام من جبروت العدوّ الصهيوني.
هذا على مستوى الشعوب؛ أما على مستوى الأنظمة، فقد بدا العربان بعد الرد الإيراني وكأنهم في مأزق محرج، ربما هالهم حجم الرد، وعراهم أمام أهل غزّة، الذين لم يسندوهم برصاصة واحدة، في ما إيران التي لطالما أبلسوها وألبسوها كلّ شرور الكون، تجرأت وردت بعزة وكرامة على أعدائها.. فالمطبعون الذين يخشون مشاهد العزة والكرامة لا قبل لهم على رؤية حقيقتها، توزعوا بين من ذاد عن الكيان، وفتح أجواؤه لطائرات الاحتلال بل وأسهم في محاولات إسقاط الصواريخ والمسيرات الإيرانية قبل وصولها لأهدافها، وبين من فعّل منظوماته وجوقاته الإعلامية وانهال على توهين الرد الإيراني، بعدما رأوا اندفاعة وحماسة وصحوة شعوبهم، وتهليلها وهي تشاهد الصواريخ الإيرانية تعبر أجواء بلادها نحو أهدافها في فلسطين المحتلة، فهؤلاء لا يناسبهم تعاطف شعوبهم وغضبها من أجل فلسطين والفلسطينيين في غزّة لأنهم يسيرون في اتّجاه التطبيع المعاكس.
صحيح أن الهدف الرئيس من الرد الإيراني "انتقام سخت" وتحقيق الردع لمنع العدوّ من التمادي مجددًا ضدّ سيادة الأراضي الإيرانية، وهو ما بدا أنه تحقق على الفور مع بدء توصيف الهجوم بأنه أكبر من التوقعات، ومع انتقاد المؤسسة الأمنية "الإسرائيلية" لجيش الاحتلال لسوء تقديره بأن إيران سترد على عملية التصفية، ما يعني إقرارًا متأخرًا بخطأ التقييم..، لكن الرد حمل في طياته رسائل دعم ومساندة قوية لغزّة، فبحسب قول الغزاويين أنفسهم هم لم يناموا ليلة هادئة من دون الزنانات والطائرات الحربية فوق رؤوسهم منذ أكثر من 190 يومًا، سوى ليلة الرد الإيراني.. ليلتها فقط أخذ الغزاويون نفسًا عميقًا، وشعروا بأن الصواريخ الإيرانية تحمل معها رسائل النصر الآتي، والذي كانت أول تداعياته اضطرار العدوّ لتأجيل عملية رفح العسكرية التي كان يخطط لشنها، هذا كان أول الغيث، الذي قد يقود إلى نهاية المشهد المأساوي وسيكون بكلّ تأكيد نقطة تحول كبيرة بمسار الحرب وفي تحقيق غزّة الانتصار الموعود.
أما على صعيد البعد الدبلوماسي؛ فقد أتى الرد الإيراني متقنًا وموزونًا بمقادير ضبط النفس، من خلال الترجيح بين مشروعية الرد من جهة وعدم إعطاء ذريعة لواشنطن وحلفائها لشن حرب واسعة في المنطقة، وهو ما حتّم أن يكون الرد مقتصرًا على الأهداف العسكرية، مع تحييد الأهداف المدنية في هذه المرحلة، منعًا للتوظيف الدولي وقطعًا للطريق على "إسرائيل" أمام استغلال الأمر لإعادة تصوير نفسها في موقع الضحية، بعدما عرتها جرائمها اللإنسانية وحرب الإبادة التي تشنها على أهالي غزّة أمام الرأي العام العالمي.
أحد تجليات الرد الإيراني، فضحه ازدواجية معايير الدول الغربية ووقاحتها من جديد، تلك الدول التي انقطع لسانها يوم الاعتداء "الإسرائيلي" على القنصلية الإيرانية في سورية ولم يصدر عنها بيان إدانة، سارعت لتدين رد الفعل الإيراني على الفعل "الإسرائيلي"، في انحياز تام وغير مسوّغ لحكومة الاحتلال، فمن يرغب بتوفير السلم والأمن الدولي، عليه أولًا وأخيرًا أن يردع "إسرائيل" عن العربدة في غزّة والضفّة ولبنان وسورية وعن استهداف سفارات الدول المحمية بموجب معاهدة فيينا الدولية. أما في المقلب الآخر، فقد بدا لافتًا أن الرد الإيراني غيّر الأحوال السابقة، فبعدما كان العرب يهرولون إلى مجلس الأمن بعد كلّ اعتداء صهيوني، وصلنا إلى يوم نرى فيه "إسرائيل" المجرمة المعتدية على غزّة وشعبها تستغيث بفظاظة وفجاجة وتبجح لا نظير له بهذا المجلس.
وبالعودة للأبعاد والدلالات العسكرية للرد الإيراني، فيصعب حصرها، سيما أن الرد تضمن رسائل واضحة، سواء بالحرب النفسية التي رافقت الرد أو بالتحدي المباشر والعلني، من خلال رد إيران منفردة على استهداف قنصليتها من دون إشراك حلفائها، وإثبات اقتدار إيران وقدرتها على إفشال المنظومات "الدفاعية" الأميركية والإسرائيلية المنتشرة من الخليج إلى الأراضي المحتلة، وإظهار قدرة الصواريخ الإيرانية على التملص منها وشق طريقها إلى أهدافها بسهولة، مع أن الرادارات في القواعد العسكرية الأميركية في الخليج تعقبت مسارها منذ لحظة إطلاقها وزودت طائرات العدوّ بمعلومات عنها تحضيرًا لإسقاطها. هذا فضلًا عن الكلفة الاقتصادية الباهظة التي تكبدها العدوّ في ليلة واحدة وعملية اعتراض واحدة لعدد محدود من الصواريخ، والتي بلغت مليار دولار بحسب بالتقارير. ما يطرح تساؤلات حول مدى قدرة منظومات العدوّ الدفاعية على الاستمرار بعمليات الاعتراض بحال تكرّر مشهد عملية الوعد الصادق الإيرانية على مدى أسابيع وأشهر إن لم نقل سنوات؟!
أما الرسائل المبطنة التي حواها الرد الإيراني فتتعلق بالمدى الجغرافي، إن من حيث توزع الأهداف التي أعلن عن ضربها بين الجولان شمالًا وقاعدة "نيفاتيم" الجوية جنوبًا القريبة من النقب، وهذا بحد ذاته رسالة قوية بأن إيران قادرة على أن تطال أي هدف على كامل المساحة الجغرافية لفلسطين المحتلة ما يذكرنا بعبارة سماحته: "من كريات إلى إيلات"، وإن من حيث المدى الذي قطعته الصواريخ والمسيرات الإيرانية، والذي تراوح بين 1100 و1700 كلم مع أن إيران لم تكشف عن كامل قدراتها الهجومية في ظلّ الاستنفار الدفاعي الكامل للعدو وحلفائه. والأهم من ذلك أن الاستهداف حصل لموقع قريب من مفاعل ديمونا النووي، وهذا فيه رسالة واضحة بالقدرة على الوصول إلى هذا الهدف إذا ما فكر العدوّ بتوسيع دائرة الحرب، أما وقد مرت الصواريخ والمسيّرات فوق القدس ومبنى "الكنيست" الصهيوني، ففي ذلك رسالة أيضًا ان الاستهداف الحالي طال أهدافًا عسكرية حصرًا، أما بحال تطوّرت الأمور فيمكن أن تتوسع الدائرة لتطال مباني مؤسسات الكيان والبنى التحتية المدنية.
في المحصلة، مع الرد الإيراني اكتملت صورة البازل، لم يعد هناك ضبابية في المشهد، من جهة تجسدت وحدة الساحات بوقوف جميع جبهات محور المقاومة إلى جانب غزّة والفلسطينيين بمواجهة جيش العدو، ومن جهة أخرى اصطفت دول "محور الاعتدال العربي" للدفاع عن "إسرائيل" وحماية أمنها، أما هيبة أميركا وهيمنتها بقواعدها ومنظوماتها الدفاعية والهجومية على المنطقة، فهشمتها الجمهورية الإسلامية الإيرانية في 14 نيسان للمرة الثانية بعد ضربة عين الأسد قبل 4 سنوات في العراق، كما أسهم اليمنيون في تحطيمها عبر إغلاق المضائق والبحار ومواجهة وإسقاط تحالف "حارس الازدهار"، بينما تكفل "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر بمحو فكرة أن "إسرائيل" لا تهزم من الوعي العربي والإسلامي، واستبدالها بأمل الزوال القريب..
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024