معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

أوهام أميركية لما "بعد غزة"
02/04/2024

أوهام أميركية لما "بعد غزة"

بدأت أقلام أميركية وازنة تعلن تخوّفها من عواقب الحرب التي طالت على غزة، ومن عواقب التورط الأميركي في دعم الكيان الصهيوني. وربما لخص جوناثان بانيكوف، وهو مدير مبادرة سكوكروفت لأمن الشرق الأوسط، في مقال له في المجلس الأطلسي هذه المخاوف عندما قال: "تحتاج الولايات المتحدة إلى العمل مع حلفائها لتكون واضحة جدًا بشأن الخطة في حال اندلاع صراع إقليمي بسبب قيام حزب الله بمهاجمة إسرائيل أو قيامها بمهاجمة حزب الله. طوال مدة الصراع الحالي، كان منع نشوب حرب إقليمية هو أحد الأهداف الأساسية لإدارة بايدن. ومع ذلك، اليوم، وبينما يسعى المسؤولون الأميركيون إلى منع نشوب مثل هذا الصراع، فإنّ احتمالات نشوبه تتزايد. من الصعب أن نتخيل الصراع الحالي يتفاقم سوءًا، ولكن الصراع الإقليمي من شأنه أن يضمن أن الأشهر الخمسة الماضية سوف يُنظر إليها بأثر رجعي كونها مجرد مقدمة لفصول، لم يكن من الممكن تصورها من قبل، من العنف والدمار والموت في مختلف أنحاء الشرق الأوسط".

وممّا لا شك فيه أن طول مدة هذه الجولة الحربية غير المسبوقة منذ النشأة المشؤومة للكيان الصهيوني، والتي تقترب من الستة أشهر، تعني بشكل مباشر أننا أمام حقيقتين دامغتين:

الأولى: البعد الوجودي لهذه المعركة ومفصليتها التاريخية.

الثانية: صمود المقاومة وقوتها في مواجهة أعتى آلة عسكرية وأكبر غطاء سياسي وتواطؤ دولي وعربي وخذلان شعبي، وهو ما يعني بشكل مباشر أن المقاومة ومحورها المنفذ لوحدة الساحات يتمتعان بقوة سياسية وعسكرية تخشى معها الماكينة الحربية الصهيونية بقيادة الولايات المتحدة من توسيع الصراع والانزلاق للحرب الشاملة.

ولكن هذه المدة الطويلة للمعركة مع التعقيدات السياسية للتسوية، مع تفاقم الأزمة الإنسانية ووضوح الجرائم، تقود إلى حالٍ يصعب استمرارها طويلًا؛ وهو ما يقود إلى أحد سيناريوهين:

1 - اليأس من الرهانات على هزيمة المقاومة والقضاء على وحدة الساحات، وبالتالي الانزلاق إلى المواجهة الشاملة، وهو سيناريو بدأت نذره تتحقق مع تصاعد العمليات في مختلف الجبهات.

2 - البحث عن حل ومخرج يتخّذ العنوان الإنساني ذريعة لتحقيق أمر واقعي خالٍ من المقاومة، وهو عنوان عريض تبحثه أميركا والأنظمة الرسمية العربية ويطلق عليه "اليوم التالي للحرب"، لبحث خطط وتصورات ما بعد الحرب مع افتراض أن المقاومة قد فكّكت.

بالنسبة إلى السيناريو الأول، فقد أعلنت المقاومة الفلسطينية أن أي تصور مبنيّ على دخول قوات دولية أو عربية تحت مسميات حفظ السلام أو غيرها سيؤدي إلى التعامل معهم كقوة احتلال. كما أعلن محور المقاومة أنه مستمر في إسناد غزّة والحفاظ على مقاومتها وضمان انتصارها مهما كانت الانزلاقات.

أما السيناريو الآخر، فهو يشكّل المصدر الرئيسي لما نراه ونسمعه من تحركات وتصريحات أميركية وعربية، وخداع ومناورات توحي بخلافات أمريكية - صهيونية، يكفي أن  تنكشف ويفضحها خبر واحد نشرته صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، وهو أن السلطات الأميركية سمحت بتزويد "إسرائيل" بكمية كبيرة من المعدات العسكرية والأسلحة، بما في ذلك أحدث الطائرات المقاتلة من طراز F - 35 والقنابل الجوية Mk - 82 وMk - 84 وعدد من الطائرات المقاتلة من طراز F - XNUMX. بإجمالي عدة مليارات من الدولارات.

بذلك؛ نعرف جيّدًا أن أميركا والعدو سيسيران معًا إلى نهاية المطاف وفقًا لأي سيناريو، إما مواجهة شاملة، أو محاولة لتكريس أمر واقع لمستقبل غزّة، وبالتالي يجب وقف أي رهانات على الخلاف بين أميركا والكيان، بل وإبطال الرهانات أيضًا على انسلاخ الأنظمة التابعة عن هذا المعسكر الصهيو - أميركي، حيث تقوم الخطط البديلة على الاستعانة بالعرب في تنفيذها كأدوات رئيسة بهذه الخطط.

في هذا السّياق؛ تقرير خطير نشره الاجون هانا، من المعهد اليهودي للأمن القوميّ الأميركي (JINSA)، وإليوت أبرامز رئيس تحالف فاندنبرج وزميل بارز في مجلس العلاقات الخارجية، وهو يوضح الخطط الصهيو - أميركية بامتياز، إذ قالا إنه بعد رحلات متعددة إلى الشرق الأوسط وإجراء ما يقرب من 100 مقابلة مع الخبراء، هما يعتقدان- ومعهما مجموعة من مسؤولي الأمن القوميّ السابقين الذين عملوا مع رؤساء من كلا الحزبين- أن الخيار الأكثر واقعية هو إنشاء صندوق دولي خاص لإغاثة غزة وإعادة إعمارها. وحول خطة الصندوق، يقول التقرير إنه، سيجري إنشاء الصندوق كيانًا مستقلًا مكرسًا لبناء غزّة "سلمية ما بعد حماس" بحسب تعبيرهما. وفي الواقع: "فإنها ستكون بمثابة منظمة غير حكومية كبرى. ومن شأن هذه الآلية أن توفر للدول الرئيسة، لا سيما في العالم العربي، وسيلة آمنة سياسيًّا لمساعدة سكان غزّة على الفور من دون تعريض هيبتها أو دبلوماسييها أو قواتها للخطر بشكل مباشر في بيئة شديدة الخطورة، حيث ستبقى القوات الإسرائيلية نشطة لعدة أشهر"؛ وفقًا لقولهما.

وبحسب التقرير: "بمشاركة الولايات المتحدة، من الأفضل أن تتولى قيادة الصندوق دول عربية صديقة، مثل المملكة العربية السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة، تتمتع بأكبر قدر من الشرعية والموارد والمصالح لبناء مستقبل أفضل لغزّة. وستعمل المؤسسة مع جميع الراغبين في المساهمة في مهمتها، بما في ذلك الدول المانحة الأخرى والمنظمات غير الحكومية الشريكة والهيئات الدولية مثل وكالات الأمم المتحدة المختصة. وستكون الأولوية الأولى للصندوق هي تعبئة الإغاثة الطارئة على نطاق واسع، بما في ذلك الغذاء والماء والرعاية الطبية والبناء السريع للمجتمعات السكنية الجاهزة التي يمكن أن تكون بمثابة جزر استقرار إنسانية. ويمكن أن تبدأ هذه الجهود في مناطق شمال غزة ووسطها، حيث بدأت سيطرة حماس تتفكك بالفعل. ومع استقرار الأزمة الإنسانية المباشرة، سيساعد الصندوق الائتماني سكان غزّة على استعادة الخدمات الأساسية، وإصلاح البنية التحتية الحيوية، وإطلاق عملية إعادة الإعمار الاقتصادي وتوليد قيادة وشرطة جديدة مسؤولة. ويجب أن تتضمن هذه المبادرات برامج للقضاء على التطرّف في وسائل الإعلام والمدارس والمساجد في غزّة، والتي تعتمد على نجاح الجهود المماثلة في الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية. ويجب أن يضمّ الصندوق مجلسًا استشاريًا من سكان غزّة المحليين الذين فُحصوا عن كثب، بالإضافة إلى سكان غزّة من الضفّة الغربية والشتات الذين يتمتعون بالخبرة الإدارية والأمنية والمهنية ذات الصلة، وأفضل معرفة بمجتمع غزّة"؛ وهذا كله على حد تعبير التقرير.

واللافت أن هذه الخطة تتوافق مع الوثيقة التي قدمها نتنياهو للحكومة الصهيونية، حيث كشفت لوسي كيرتزر - إلينبوجن، وهي مديرة برنامج "إسرائيل والأراضي الفلسطينية والمنطقة"، أنه وفي أقل من صفحتين من الشروط المقسمة بين ضرورات الشؤون الأمنية والمدنية الفورية والمتوسطة والطويلة الأجل، تطرح الوثيقة التي قدمها نتنياهو، والتي تحمل عنوان "اليوم التالي لحماس"، رؤية تتابع فيها "إسرائيل" الحرب حتّى تحقق أهدافها المتمثلة في تدمير القدرات الحاكمة والعسكرية لحماس والجهاد الإسلامي الفلسطيني. إذ تحدد الوثيقة مجموعة من المبادئ التي من خلالها ستتمتع "إسرائيل"، طالما "تقتضيها الحاجة الأمنية"، "بالسيطرة الأمنية على المنطقة بأكملها غرب الأردن"، بما في ذلك غزّة منزوعة السلاح بالكامل؛ والحفاظ على منطقة أمنية عازلة على طول الجانب الفلسطيني من الحدود؛ وتنفيذ إغلاق الحدود بين مصر وغزّة.

وطُرحت هذه المبادئ على أنها شرط أساسي، إلى جانب التجريد من السلاح، للمضي قدمًا في عملية إعادة الإعمار، وتوضح الحاجة إلى المضي قدمًا بخطة "لإزالة التطرّف" من المؤسسات الدينية والتعليمية والرعاية الاجتماعية، والتي يمكن تنفيذها "بقدر الإمكان بمشاركة ومساعدة الدول العربية التي لديها خبرة في تعزيز مكافحة التطرّف في أراضيها"؛ بحسب الوثيقة. ومع تقديم الحد الأدنى من التفاصيل حول مسائل الحكم في غزّة ما بعد الحرب، تنص المبادئ ببساطة على "عناصر محلية" تتمتع بخبرة إدارية لتولي الشؤون المدنية.
وتدعو الوثيقة أيضًا إلى الإغلاق الكامل لوكالة المعونة الأساسية في غزّة، وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا)، وتتصور أن تتولى منظمات الإغاثة الدولية الأخرى دور الوكالة، ولكن لم تحدّدها.  

كما ترفض الخطة أي "إملاءات دولية" بشأن التسوية الدائمة مع الفلسطينيين، أو الاعتراف الأحادي بالدولة الفلسطينية"، مشيرة إلى أن أي تسوية سياسية يجب أن يتم التوصل إليها من خلال المفاوضات الثنائية "بين الطرفين" من دون شروط مسبقة.

إزاء هذا الواقع؛ تتجلّى حقيقة التحالف الأميركي - الصهيوني مع الأنظمة العربية ومحاولات كسب الوقت لتنفيذ هذه الخطط المشبوهة. إن وعد محور المقاومة ككل هو ربط الساحات وتصعيدها بالوضع في غزّة، والوعد الرئيسي هو خروج غزّة منتصرة ببقاء المقاومة ووقف العدوان، وعلى العدوّ ورعاته والمتواطئين معه إسقاط الرهانات على وقوف المقاومة متفرجة على تنفيذ هذه الخطط، والتي دونها الانزلاقات الكبرى.

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

خبر عاجل