معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

فشل سياسة العقوبات الاميركية
20/05/2019

فشل سياسة العقوبات الاميركية

صوفيا ـ جورج حداد

منذ عهد جورج بوش الاب، وانطلاقا من وهم امكانية التحول الى "القطب العالمي الاوحد"، بدأت اميركا تمارس بشكل فظ نزعة الهيمنة الآحادية على العالم، وهو ما تبدى في الحروب المباشرة والهجينة التي شنتها اميركا وحلفاؤها في مختلف ارجاء العالم ولا سيما في الشرق الاوسط الغني بمصادر الطاقة، المحرك الاول للاقتصاد العالمي. كما شرعت ـ ولا سيما في عهد دونالد ترامب ـ في شن الحرب الاقتصادية على مختلف البلدان بقصد تركيعها.

وقد ادت تلك الحروب، العسكرية والاقتصادية، الى قتل ملايين البشر، ولا سيما الاطفال، بالاسلحة المتطورة والمحرمة والمجازر والتجويع والامراض والاوبئة، في العديد من البلدان (يوغوسلافيا السابقة وصربيا، افغانستان، العراق، كوريا الشمالية، اليمن، سوريا، فلسطين، لبنان، شرق اوكرانيا، فينزويلا وغيرها).

على هذه الخلفية تبرز سياسة المعاداة الاميركية لروسيا بوصفها بعثا واستمرارا للحرب الباردة السابقة بين اميركا والاتحاد السوفياتي السابق. وقد لجأت اميركا، ولا سيما في عهد دونالد ترامب الى فرض اشد العقوبات الاقتصادية ضد روسيا وضد الدول والشركات الاجنبية التي تتعامل اقتصاديا معها.

وتدرك اميركا انها لا تستطيع مواجهة روسيا عسكريا لانها هي ذاتها ستسقط حينذاك بالضربة النووية القاضية. ولذلك هي تستبدل الحرب العسكرية بالحرب الاقتصادية، وتهدف  من وراء سياسة العداء والحصار والعقوبات الاقتصادية غير المسبوقة ضد روسيا ليس فقط الى التضييق عليها واضعافها اقتصاديا، بل وخنقها وتجويعها والقضاء عليها كدولة، ذلك ان روسيا تبرز على الساحة الدولية بوصفها العدو الاول والاقوى والاقدر على مواجهة نزعة الهيمنة الاميركية على العالم.   

وبمراقبة مجريات الامور يمكن القول ان المواجهة الاميركية ـ الروسية تمثل اليوم المحرك الرئيسي للجيوستراتيجيا الدولية.

فإلى اي مدى تنجح اميركا في هذه المواجهة؟

لا شك ان الحصار الاميركي الخانق على روسيا قد حمل اضرارا فادحة الى الاقتصاد الروسي، وخفض نسبة النمو السنوي الى اقل من 2% في 2018 حسب معطيات صندوق النقد الدولي. ولكن روسيا بدأت تكسر طوق الحصار وتسجل النجاح في اقامة العلاقات الاقتصادية مع اوروبا ذاتها بالرغم من جميع القرارات العدائية الاميركية. وتجلى ذلك بالاخص في عجز اميركا عن منع مد انبوب الغاز "السيل الشمالي ـ 2" الذي سيمتد من الاراضي الروسية عبر بحر البلطيق الى شمال المانيا، ومنها يتم توزيع الغاز الروسي الى مختلف بلدان اوروبا الوسطى والغربية. وتمديد انابيب هذا الخط جار الان في اعماق بحر البلطيق، وفي السنة القادمة يصل الى الاراضي الالمانية. وقد ساهمت فيه رأسماليا شركات المانية الى جانب شركة "غازبروم" الروسية التي احتفظت بأغلبية الاسهم في هذا المشروع القاري الضخم.

واذا كانت بعض الحكومات الاوروبية تؤيد او تساير القرارات الاميركية المعادية لروسيا فهذا لا ينطبق على الرأي العام الاوروبي. وقد اجرت مؤخرا مؤسسة Gallup International استطلاعا للرأي في بلدان الاتحاد الاوروبي تبين بنتيجته ان نسبة 52% من المواطنين تعارض تلك القرارات. ويقول خبراء المؤسسة "ان الناس يضعون في المرتبة الاولى من الاهمية المصالح الوطنية وهم مقتنعون بلاجدوى العقوبات الدولية" ضد روسيا وغيرها.

وعلى هذه الخلفية شرعت اوروبا تقوم بالخطوات الاولى للالتفاف على الضغوط الاميركية لاجل تمديد العقوبات ضد بلدان كروسيا وايران، وتحاول ان تنتهج سياستها المستقلة. وفي نيسان الماضي، وفي مقابلة مع قناة   OWC Verlag، صرح ميخائيل هارمس، المدير التنفيذي للجنة الشرقية للاقتصاد الالماني، ان العقوبات الاميركية ضد الشركات الاوروبية التي تعمل مع الشركات الروسية، هي خرق فظ للشرعية الدولية، وان قطاع البيزنس الالماني سيجد الطريقة للالتفاف عليها. وبالرغم من العقوبات الاميركية تذكر جريدة  Handelsblatt ان الشركات الالمانية توظف المزيد من الرساميل في روسيا. وحسب معطيات بنك Deutsche Bundesbank فإن التوظيفات الالمانية المباشرة في روسيا ارتفعت منذ بداية 2019 بنسبة 14%، وهو ما يساوي 3،3 مليار يورو. كما ازدادت ليس فقط التوظيفات، بل ايضا التجارة بين روسيا والمانيا، بنسبة 8،4% سنة 2018، ووصلت الى مبلغ 61،9 مليار يورو. وازداد الاستيراد من روسيا بنسبة 17،7% وبلغ 36 مليار يورو. كما ازداد عدد الشركات الالمانية الكبيرة والمتوسطة والصغيرة العاملة في روسيا وبلغ 44861 شركة في نهاية 2018.

وقد دشنت شركة "مرسيدس" مصنعا لسياراتها في روسيا قريبا من مدينة موسكو، بلغت قيمته 250 مليون يورو. وقررت شركة "فولسفاكن" ان تحذو حذوها. وافتتحت مصنعين لها في مدينتي كالوغا ونوفغورود برأسمال زاد عن  500 مليون يورو. والشركات الالمانية التي تنشئ مصانع لها في روسيا تقوم بتلبية طلبات السوق الروسية الكبيرة، وكذلك بتصدير قسم من انتاجها الى خارج روسيا. ويصح ذلك بشكل خاص على صناعة الالبسة. وقد بدأت شركة فولسفاكن تصدر ربع انتاجها في روسيا الى الخارج. كما ان الشركة التكنولوجية العملاقة "سيمينس" تتعاون مع السكك الحديد الروسية في بناء اول خط سكة حديد فائقة السرعة في روسيا.

ويعلق ماتياس شيب، رئيس غرفة التجارة الالمانية ـ الروسية، على العقوبات الاميركية بالقول "ان الشركات الالمانية بالتحديد تعرف روسيا جيدا، وهي لن تسمح بتخويفها بالعقوبات او بالمشكلات السياسية".  

والجدير ذكره ان فكرة التعاون الاوروبي مع الاتحاد السوفياتي السابق (روسيا) تعود الى منتصف القرن الماضي، الى الرئيس الفرنسي الاسبق شارل ديغول. وهناك الان عدد من الدول الاعضاء في الاتحاد الاوروبي التي تصرح علنا بضرورة تحسين العلاقات مع روسيا وهي النمسا، تشيخيا، هنغاريا وايطاليا. كما يوجد الكثير من الاحزاب القومية، الموصوفة "بالشعبوية"، واليسارية "المتطرفة"، في مختلف البلدان الاوروبية، التي يزداد عددها يوما بعد يوم، والتي ستخوض الانتخابات للبرلمان الاوروبي الموحد في 26 ايار الجاري، تحت شعارات الابتعاد عن الاملاءات الاميركية وتحسين العلاقات مع روسيا (وغيرها من الدول المغضوب عليها من قبل اميركا).

الا ان كل التضييقات الاميركية لم تجبر روسيا على التراجع عن سياستها الداخلية والخارجية المناهضة للهيمنة الاميركية. بل على العكس، فالجبهة الداخلية الروسية اصبحت اكثر تماسكا وتمسكا بالخط الذي يقوده فلاديمير بوتين. اما خارجيا فقد ظهرت موضوعيا على الساحة الدولية نواة صلبة لمحور ستراتيجي شرقي، معاد للهيمنة الاميركية يتألف من ثلاث دول قوية وكبيرة وغنية هي روسيا والصين وايران. وظهر في ازمة اوكرانيا، وفي سوريا، كما يظهر الان في الخليج، ان اميركا اعجز من ان تقف بوجه هذا المحور الشرقي الجبار.

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات