آراء وتحليلات
المشهد الإقليمي وسط صراع الحقائق
هناك العديد من المستجدات التي أفرزتها الحرب منذ عملية "طوفان الأقصى" إلى اليوم، وهذه المستجدات دشّنت مجموعة من الحقائق الجديدة في المنطقة، والتي تتصادم مع مجموعة من الحقائق السابقة التي تريد أميركا والعدو الصهيوني التشبث بها، وهو ما يخلق هذا المسار المسدود لوقف العدوان وهذا التعثر الكبير بسبب رفض الاعتراف بالحقائق الجديدة.
بالرغم من عظمة التضحيات التي يقدمها الشعب الفلسطيني وتحديدًا في غزّة، ومع وضوح العدوان وجرائم الحرب والإبادة، إلا أن البعض ما يزال يجد بوقاحة شديدة متسعًا من الجدال وهامشًا من المماطلة في تحميل كامل المسؤولية الجنائية لأميركا والكيان الصهيوني، والخروج بمقاربات متخاذلة لتحميل المقاومة مسؤولية الدم الفلسطيني المسفوح، ومحاولة تبرئة أميركا من مسؤوليتها والارتضاء باستمرارها وسيطًا وحكمًا.
وبالمثال يتضح المقال في بعض من هذه الحقائق الجديدة وتصادمها مع الحقائق السياسية السابقة، وتوضيح مصدر التصادم والوصول إلى التعقيد السياسي والاستراتيجي:
1 - هناك حقيقة جديدة تأتي على رأس الحقائق السياسية والاستراتيجية، وهي حقيقة وحدة الساحات المقاومة، وهي تتصادم مع حقيقة سابقة شكلت فزاعات سياسية بعدم تدخل الساحات طالما لم تستهدف وإلا سيكون العقاب هو الحصار والاستهداف الدولي وتضييق الخناق والعقاب الجماعي للشعوب والدول التي تتدخل أي حركة مقاومة فيها بالصراع.
هذه الفزاعة سقطت بعض رفض جميع التهديدات والإغراءات، والأهم هو توفير الردع الذي يمنع العدوّ من سياسة العقاب الجماعي، وهو ما تجلى بشكل خاص في لبنان وعجز العدوّ عن تنفيذ تهديداته اليومية بعد يقينه من جدية المقاومة في لبنان من المضي في الشوط إلى نهايته. وهو ما تجلى في اليمن الذي رفض جميع التهديدات وتحول إلى قوة كبرى تفرض سطوتها وتنفذ معادلاتها البحرية.
2 - من الحقائق الجديدة أيضًا تأتي حقيقة الإعلان عن الوجه الحقيقي للأنظمة الرسمية العربية، والتي أدمنت الادّعاء بأن تطبيعها مرتبط بمصالح الشعب الفلسطيني، والتي طالما ادعت بأنها متمسكة بالقضية المركزية وبأنّ هناك هامشًا للاستقلالية عن أميركا، بينما كشفت المعركة علنًا وبما لا يدع مجالًا لأي ادعاء أنها أنظمة عاجزة ومرتهنة وتابعة وتقوم بالتطبيع حرصًا على عروشها ومصالحها الدولية ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بمصلحة الشعب الفلسطيني ولا بالشعب الفلسطيني نفسه.
3 - حقيقة السلطة الفلسطينية، والتي طالما روّجت أن خلافاتها مع المقاومة هي خلافات تكتيكية والهدف النهائي واحد وهو التحرير، بينما أثبتت الأحداث أنها سلطة معادية للشعب الفلسطيني وليس فقط للمقاومة، وتجرأت على تحميل المقاومة مسؤولية الدم الفلسطيني ووصفت محاولة الحفاظ على القضية من التصفية النهائية بأنها مغامرة، وكأنّها تطلب الصمت والجلوس في مقاعد المتفرجين لمشاهدة تصفية القضية وابتلاعها وتطبيع زميلاتها من السلطات العربية مع العدو، فضلًا عن ثبوت شوقها لانتزاع السلطة ولو على أنقاض غزّة ودمارها والتعهد بخلوها من المقاومة مستقبلا.
4 - من الحقائق الجديدة أيضًا تأتي حقيقة تراجع القوّة الأميركية والفضح الكامل لكذبها ونفاقها والتخبط في إدارة الأمور في الإقليم، وهي حقيقة جرت خلفها مجموعة من الحقائق حول الأنظمة والنخب والطوابير الخامسة في المنطقةـ والتي ما تزال تروج لأميركا وتخدم سياساتها الانتخابية بتصوير أن هناك خلافات بينها وبين نتنياهو أو أنها حريصة على المساعدات الإنسانية أو حل الدولتين وكلّ هذه الترهات.
تصطدم هذه الحقائق الجديدة التي أفرزتها بطولات المقاومة وصمودها على امتداد محور المقاومة، بالحقائق القديمة، وعلى رأسها أن أميركا بيدها أوراق اللعبة وهي خصم وحكم ولا بديل للإذعان لمعادلاتها وأن الأنظمة الرسمية قادرة وفاعلة وتستطيع الضغط على حركات المقاومة والرهان على حكمة حركات المقاومة وصبرها بانتزاع بعض المرونة في التسويات. وبالتالي؛ هناك البعض ممن يزالون يعيشون على الأوهام القديمة والرهانات السابقة وهو ما يخدع – مع الأسف - بعض المحللين ونرى في تحليلاتهم بعض أصداء من هذه الرهانات بفعل التأثر بالمناخ المخادع الذي تبثه أميركا والأسماء الرنانة لصحفها ووسائل إعلامها.
مرة أخرى ينبغي الالتفات إلى أن إدارة بايدن تكسب الوقت، وتخاطب قطاعات من الداخل الأميركي الغاضب من انحيازها التام للجرائم الصهيونية وأنها تستعين بتوابعها من الأنظمة والأبواق العربية لترويج خلافاتها المزعومة مع نتنياهو والطغمة المتطرّفة في الكيان. كما ينبغي الالتفات إلى أنّ هناك استحقاقات ولو شكلية في الكونغرس الأميركي ستراجع يوم 24 مارس/أذار ممارسات العدوّ بصفته حليفًا يحصل على الأسلحة ومدى الالتزام بالضوابط القانونية لاستخدامها وهو أمر يضع الصورة القانونية والديمقراطية الأميركية على المحك، وهي أزمة بدأت تناقشها الأروقة القانونية والسياسية داحل أميركا؛ وهناك اتّجاهان للتغلب عليها:
الأول: هو توفير مساعدات إنسانية بأي شكل لغزّة، ومنها فكرة الميناء الأميركي، والذي كشفت وسائل إعلام صهيونية إنها فكرة نتنياهو بالأساس منذ الأيام الأولى للحرب. والثاني: هو التنازل والاستثناء للحليف الصهيوني بدعوى الأمن القوميّ الأميركي؛ أي أنه في جميع الحالات لا رهانات على صدام أميركي- صهيوني، وربما يكمن الأمل في افتضاح أمر أميركا عالميًا وداخليًا وما سيجره داخليًا من مشكلات تعصف بالتماسك السياسي الأميركي. كما أنه لا رهانات على خلافات صهيونية سياسية أو انتخابات مبكرة، حيث هناك اتفاق غير معلن على تصفية المقاومة وعدم السماح بتكرار ما حدث في 7 أكتوبر، وربما يكمن الرهان الحقيقي على المزيد من تفسخ الجبهة الداخلية الصهيونية وتداعياته.
إذًا؛ يبقى الرهان الحقيقي على الصمود وعدم السماح بالعودة إلى الوراء ولا لأي من الحقائق القديمة بالعودة على حساب مستجدات الحقائق التي أفرزها الصمود؛ وقُدمت من أجلها أعظم التضحيات.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024