معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

اليوم التالي للجريمة
09/03/2024

اليوم التالي للجريمة

أحمد فؤاد 

في معرض ردود المقاومة الفلسطينية الباسلة على العدو الصهيوني، وما يمارسه من دجل شيطاني بادعاء الوصول لأهداف ما، بعد شهور طويلة من الغرق والاستنزاف على جبهة غزة، قال أبو حمزة، أحد المتحدثين الإعلاميين باسم أبطالنا البواسل الصامدين، إن "مسألة اليوم التالي في غزّة لا تحددها إلا المقاومة الفلسطينية وليس نتنياهو". كان المغزى من تلك الجملة العبقرية ذكيًّا وحادًّا، ويحدد نوعية الحرب الحالية، وأهداف البندقية العربية فيها.

في الظهور الأول لسماحة الأمين العام السيد حسن نصر الله، عقب عملية طوفان الأقصى، في يوم الثالث من تشرين الثاني الماضي، وبعده في خطابات لسماحته، كرر وأكد أكثر من مرة أن قرار المقاومة بالذهاب إلى الميدان كان استباقًا لرغبات العدو وكسرًا لمخططاته، وحفاظًا على خيار الفعل بحوزة المقاومة وترك رد الفعل للعدو، بما يجعله مكشوفًا مهتزًا، يسهل توقع قرارته ويحصر حركته في دائرة ضيقة. هذا هو بالضبط الفارق بين روحية الجهاد وعقلية السلام، الأولى ترفض الإجابة عن مقرر الطغاة وترفع لواء الإباء والكرامة، والأخرى ترضى وتقبل بالخضوع والاستسلام مقابل ما تظنه واهمة راحة وأمنًا. في النهاية فإن الخيار الأول يربح المعركة بكل النتائج الممكنة، وعقل المستسلم يهزمه قبل أن يفعل عدوه، وحتى قبل أن تبدأ المعركة.

لم تدرك النخبة المصرية الساقطة ــ اسمًا لا وصفًا ــ في رذيلة عصر السلام الأميركي أن خطابها المبكر والمشين بإبعاد مصر عن المعركة عربيًا تعني حصار القاهرة قبل أن تحاصر غزة، وجريمة في حق الدم المصري قبل الفلسطيني والعربي، وأن راية المقاومة ليست عبئًا وخصمًا بل إضافة حقيقية بالرصيد وللدور والقيمة، وأن الهوان الذي كتب على اسم مصر منذ 1979، وصولًا إلى اليوم، لم يكن رخاءً من أي نوع أو صنف، بل انهيار لكل معنى وتفريطًا رخيصًا في الروح والجسد، وأنه منذ يوم توقيع كامب ديفيد لم تعرف مصر سوى خطوات التراجع المساوم المستمر والمستنزف، وأن استمرارها حتى كدولة صار تخوفًا من قنبلة لجوء ضخمة ترعب أوروبا، أكثر من كونه نتيجة طبيعية لمسيرتها المأساوية الكئيبة، وأن درسها الأخير هو اليوم، وفي عز أيام طوفان الأقصى وبركاته وبشرياته التي تفيض على المنطقة والأمة.

المثير في النتيجة الوحيدة لصوابية قرار المقاومة أن أثره الهائل ومركز الزلزال لم يكن على جبهة قتال، ولم يتأتَّ بسواعد أبطالها ومجاهديها، وجاء من جبهة ذلة لا سلة، من مصر الهادئة البعيدة بنظامها عن فكرة الحرب ونبلها بالأصل. ويوم السادس من آذار الجاري، وفي مطلع شهر قتال سادس آخر، بكل أعبائه ونزيفه وتكاليفه الهائلة، فإن نوعًا من أنواع أسلحة الدمار الشامل ــ التعويم ــ قد استخدم اليوم في القاهرة، يسمونه زورًا باسم قرارات إصلاح اقتصادي، وهو المثال النهائي والأكمل الذي يطفح إلى أن الخيارات التاريخية تحكم وتسيّر الأمم إلى مصيرها، وأن الحقائق قادرة على الوصول والنفاذ حتى من خلال هؤلاء الذين يتصرفون على عكس اتجاهها، ومهما حاولوا وقف زحفها ومنطقية النتائج الواقعة، بل إنها أحيانًا تظهر أكثر سطوعًا ونقاءً في بلاد أحبت دور المفعول به والمشاهد السلبي منزوع الإرادة والقدرة، وتمارسه بإخلاص وتفانٍ شديدين.

التعويم أو ما يعرف بتحرير سعر صرف العملة المحلية تمامًا، كما ورد في بيانات البنك المركزي المصري الرسمية، هي أشبه ما تكون بعملية قصف جوي غاشم، كالضغط على زر صغير يفتح فوق رأس العالم الجحيم الذري بصورة تشمل البلد بالكامل، تدمره وتشله وتشوه صورته وتذيب عظامه ولحمه، وهي مع ذلك لا تعني لمتخذ القرار أي شيء له معنى أو حضور. هم في الأخير يمارسون سلطاتهم من بعيد حيث القصور وأسوارها العالية المنيعة، ويجري فيها ما يجري من أعمال الحكم خليطًا بين الصفقات المشبوهة والسمسرة في الأرض والشرف وتختلط فيها السرقة بالاغتصاب، وهي عنيدة وغبية ومعدومة المروءة، تفرض ما تريد غير مستجيبة لأنات وجع ولا صاغية لزفرات قهر حارقة.

أبسط ما قد يكون من آثار مباشرة وسريعة الوقوع لتراجع سعر صرف الجنيه المصري سيكون ضربة ثلاثية الأبعاد من التضخم المنفلت والانهيار التام لأي شكل للدعم الاجتماعي ورفعًا غير مسبوق لنسب الفقر، وهي بالأصل مروعة، وتعترف الحكومة رسميًا بسقوط ثلث مواطنيها تحت خط الفقر، فيما ترفعه تقارير البنك الدولي –كإحدى الجهات المشرفة على عمليات الإصلاح- إلى نسبة الثلثين (2/3) من عدد السكان، ارتفاعًا من نسبة الربع فقط قبيل 25 يناير 2011، مع انتشار واضح وحقيقي لمن هم تحت خط الفقر المدقع، وهي نسبة لا تقل عن 6.5% طبقًا لأكثر التقارير الرسمية المصرية تفاؤلًا وتزييفًا. وما يعنيه التعريف الجامد هي الشريحة الدنيا ممن قد لا يستطيعون تأمين وجبة غذائية واحدة في اليوم، هؤلاء الذين يعيشون على حافة الجوع أو غائبين في قلبه القاسي.

القرار الذي جاء طبيعيًا في سياقه وتطور هذا النمط من الاقتصاد العاجز مدمن القروض، رفع سعر صرف الجنيه مقابل الدولار إلى 50.5، في نهاية اليوم الأول نزولًا من 31 جنيه/ للدولار وفقًا للسعر الرسمي قبل 24 ساعة، وبما سينعكس على كل أسعار السلع والخدمات سواء الحكومية أو المقدمة عبر القطاع الخاص، وبما سيؤثر مباشرة في أسعار السلع الغذائية الرئيسية، قبل أيام من شهر رمضان حيث معدلات الاستهلاك تصل لذروة ارتفاعها، وبما يطيح بالبقية الباقية من توازن هش وصوري كان يعكسه السعر الرسمي، وهي من جانب آخر كانت أحد أهم شروط صندوق النقد الدولي لتوفير قرض جديد للحكومة المصرية بأقل من 8 مليارات دولار، مع شرط تخارج الدولة/الجيش من العملية الاقتصادية، والمبلغ كله مع الاستثمارات/القروض الجديدة من الإمارات لا تمثل شيئًا فيما ستدفعه مصر لفاتورة خدمة الديون في العام 2024 وحده، والمقدرة بـ 42 مليار دولار (أقساط+ فوائد)، وكأن الدائرة الجهنمية تزداد وتتوسع مهما ابتلعت من أموال أو موارد، ثم هي تزداد توحشًا وفحشًا، في الأعوام العشرة الأخيرة دفعت الدولة الفقيرة جدًا 132 مليار دولار لسداد مقابل خدمة الديون الأجنبية المتعاظمة، ومع ذلك ارتفعت الديون من 40 مليار دولار إلى 146، في الفترة من 2014 إلى 2024، وهذا بالطبع قبل إضافة البنود الطازجة الجديدة.
..
في عز الابتلاء وذروة زمن الامتحان والغربة، ومرارة اجتماع الخائن بالأحمق على المقاومة، وفي معركة سورية بالذات على أهميتها وتفردها ووزنها، كانت كلمة الحق الصادحة التي رفعها المجاهدون "لن تسبى زينب مرتين"، في وجه أعاصير الدنيا والشر وقت أن فتحت الخزائن والمخازن والمعسكرات، وهتف الكل لسقوط قلعة المقاومة، لم يكن الظرف أسوأ من غربة غزة وحصارها وخنقها باليد التي تلقي المساعدات الطائرة الحقيرة، وهي إلى اليوم لا تزال عالية ولحروفها رنين دهشة المرة الأولى، تمامًا، تقول إن النصر هو الحليف الدائم لهذا الطريق وهدفه وغايته.
 

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات