آراء وتحليلات
احترس.. الدولة تعود للخلف
أحمد فؤاد
في يوم 9 أيلول/ سبتمبر 2011، وخلال إحدى أكثر لحظات الثورة المصرية ألقًا ودلالية، حطم الثوار المصريون الحواجز الخرسانية حول السفارة الصهيونية بالجيزة، وأنزلوا العلم الصهيوني الذي كان يخنق قلب القاهرة ويقبع على أنفاسها طوال سنوات كئيبة، دونما رضى من أهلها أو موافقة، ومع شظايا انهيار الجدار تداعت قداسة مفترضة لـ"كامب ديفيد"، وتبعية كاملة للغرب، وقيلت الكلمة الأوضح لثورة يناير الشعبية، أن لا صوت إلا صوت مصر، ولا شرعية إلا للشعب، ولتذهب خيارات النظام الحاكم إلى الجحيم.
كانت الثورة تبحث، وسط طوابير العملاء وجيوش الثورة المضادة، عن فعل حاسم يعبر عن إرادتها بحسم وقوة، وعن قرار سياسي يترجم آمال الشارع، والذي لم يحن أوانه بعد، لكنها عبرت في أفعالها ـ وأحلامها أيضًا ـ عن خاطر كل مصر وعربي، مصر العربية هي الخيار، ومجتمع الكفاءة لا المكافأة هو الهدف، والعدالة الاجتماعية أولًا، وغيرها من شعارات لا تزال دستورا وطنيا لا يقبل الطعن، رغم الانتصار المؤقت للثورة المضادة.
وقع ضحية الأحداث 3 شهداء، لم تعتبرهم الدولة إلا مجرمين، وأكثر من 1000 ضحية، وقُدم العشرات إلى محاكم أمن الدولة فيما بعد، وكل الضحايا الأبطال كانوا يعلمون يقينًا أنهم يسعون إلى مجتمع جديد، قد لا يكونون فيه، لكن مصر تستحق أفضل من نظام كامب ديفيد، وذهبوا إلى حيث ذهب من قبلهم سليمان خاطر وسعد إدريس حلاوة، ممن دفعوا أعمارهم مقابل رفض الوجود الصهيوني في مصر.
ومع تولي الرئيس الحالي، عبد الفتاح السيسي الحكم، قبل 5 سنوات، كانت الآمال كبيرة، في نظام حكم يسعى لدخول التاريخ من بوابة بناء بلد، لا إنشاء كوبري أو منتجع، يصر على كنس الماضي لا إعادة إنتاجه، وكان المستقبل كسراب حسبه الشعب الظمآن ماء، وحين اتجه إليه في شوق، بفعل دعايات كاذبة لكنها متقنة، لم يجده ولم يعثر له على أثر.
كان الحل الواضح واللازم هو برنامج وطني للإنقاذ الاقتصادي، برنامج يعتمد التصنيع إجابة وقبلة وملتجأ، يستعيد الثروات المنهوبة، والشركات المباعة، ويرسم إستراتيجية عليا، يتحول فيها الاقتصاد المصري إلى الاعتماد على القطاعات الإنتاجية الحقيقية من صناعة وتليها الزراعة، وتكون الخدمات مجرد عنصر مساعد وليست كل المعادلة، بدفع من تجارب مصرية عديدة، أهمها محمد علي وجمال عبد الناصر، حين وطنا الصناعة ونظما الزراعة، فشهدت البلاد أفضل سنواتها.
الأرقام الواضحة والمحايدة تقول إن هيكل الاقتصاد المصري يعتمد على الزراعة بنسبة 11.2%، والصناعة بنسبة 36.3%، والخدمات 52.5% (تقديرات 2015)، وبسبب اعتماد الاقتصاد المصري على قطاع الخدمات، سواء كمصدر للتشغيل، أو جالب للعملة الصعبة، فإن الوضع دائمًا يبقى محكومًا من الخارج، وهي دائرة جهنمية، تجعل العجز وقلة الحيلة عنوانًا للحكم في مصر.
لكن لأن المقدمات الصحيحة لا تؤدي أحيانًا إلى نتائج صحيحة، فإن الحكومات التي تلت الثورة استعانت مرة أخرى بمؤسسات الخراب الدولي، صندوق النقد والبنك الدوليين، ليجثم الإحباط على القلوب، وتصبح المعاناة هي اليوم العادي للمواطن.
النظام الحاكم فرض إصلاحًا عديم الجدوى والأمل على الشعب، وخرج الرئيس للحديث عن أهمية مشروعات البنية التحتية، وكيف أنها ساهمت في تشغيل ملايين العاملين، وخفضت البطالة، وبالتالي حققت توزيع ثمار النمو على العدد الأكبر من المواطنين، وفي الحديث ذاته، قلل من أهمية الصناعة كقاطرة للاقتصاد القومي، باعتبار المصانع تحتاج إلى استثمارات ضخمة، وتشغل عددًا محدودًا من العمالة، وهو طرح فضلًا عن مخاصمته للمنطق السليم، فهو لم يأخذ في اعتباره تجارب أي دولة في أي بقعة من الأرض.
ولأن كلام الغرب محبب إلى نفوس الحكومات العربية، يفهمونه أكثر مما يفهمون لغاتهم ومواطنيهم، فالكتاب الأشهر "اعترافات قاتل اقتصادي"، لخبير الاقتصاد الدولي جون بيركنز، وأحد أعلى الكتب الاقتصادية مبيعًا عبر التاريخ، فضح ممارسات نخبة رجال الأعمال والسياسة في الولايات المتحدة، لبناء إمبراطورية عالمية تسيطر عليها "الكوربورقراطية" أي فرض سيطرة منظومة الشركات الكبرى على اقتصاد العالم.
شغل جون بيركنز خلال أكثر من خمسة وعشرين عامًا وظيفة "قرصان اقتصادي" ضمن مجموعة عمل داخل شركة استشارات اقتصادية أميركية، وهي إحدى الشركات التي تمثل وسيطا بين رؤساء وحكومات دول العالم الثالث، وبين مديري كيانات اقتصادية أميركية عملاقة، وسياسيين، وصناع قرار، يسعون لبناء إمبراطورية عالمية.
كانت مهمة "بيركنز" ومجموعته عقد شراكات مع دول من العالم الثالث لديها إمكانيات وموارد إستراتيجية، وإغراءها بالحصول على قروض ضخمة تصل إلى مئات المليارات من الدولارات من البنوك الدولية كصندوق النقد والبنك الدوليين وهيئة المعونة الأمريكية، لمساعدة الحكومات في إنشاء مشاريع بنية تحتية، أو الاستثمار في مشاريع ضخمة تحدد حسب قدرات وموارد كل دولة، كمشروعات استخراج البترول، وإنشاء شبكات كهربائية وغيرها، بالطبع لا تشمل الشراكات صناعة أو تكنولوجيا، فهذا غير مسموح به.
وتتباين وسائل القتلة الاقتصاديين لإقناع رؤساء الدول ورجال الحكومات أو أصحاب النفوذ داخل الدولة بعمليات الإقراض، ومن ثم تحويل هذه القروض قبل أن تصل حتى للبلد المقترض إلى مجموعة الشركات الغربية العملاقة التي تستفيد في النهاية من تلك الأموال كمحصلة مشاريع تنفذها، أو تسيطر بها اقتصاديا على موارد الدول كمرحلة أولى.
وتأتي المرحلة الثانية من منظومة السيطرة على الدولة من خلال اقتراض أكبر مبالغ ممكنة، وكلما كان العميل المقترض أقل قدرة على الوفاء بالديون كان ذلك أكثر نفعا ليقع هؤلاء الزعماء تحت السيطرة حينما لا تستطيع دولهم الوفاء بديون لا ترحم، ويتوالى تدفق أموال الإعانات والقروض، التي تتعاظم فوائدها على رؤساء الحكومات نظير انصياعهم لأوامر المخابرات المركزية، والدوائر السياسية الأميركية، والشركات الكبرى التي يزداد تنفذها ووجودها وسيطرتها على الزعماء ومعهم موارد وثروات دولهم النامية لتصب في النهاية في جيوب العائلات الثرية المسيطرة على الشركات العالمية.
بعد كل هذه الصراحة يقف المؤلف مع الخبراء الاقتصاديين الذين قاموا بتطويع اللغة لتغليف إستراتيجيتهم في النهب الاقتصادي، وذلك باستخدام مفاهيم مثل "الحكم الرشيد" و"تحرير التجارة"، بحيث لا تصبح السياسات الاقتصادية جيدة إلا من خلال مخططات الشركات الكبرى للدول التي تقبل هذه المفاهيم, خصخصة الصحة والتعليم وخدمات المياه والكهرباء، أي أن تبيعها للشركات الكبرى وهي مضطرة بعد ذلك إلى إلغاء الدعم وجميع القيود التجارية التي تحمي الأعمال الوطنية، بينما عليها القبول باستمرار أميركا وشركائها من الدول الصناعية الكبرى في تقديم الدعم لقطاعات أعمالها وفرض القيود لحماية صناعاتها.
ويؤكد "بيركنز" أن حرية طبع الدولار الأميركي من دون أي غطاء هي التي تعطي لاستراتيجية النهب الاقتصادي قوتها، لأنها تعني الاستمرار في تقديم قروض بالدولار لن يتم سدادها.
ببساطة فإن الكتاب، الذي بالضرورة قرأه كل مهتم بالاقتصاد كعلم، وكل مهتم بالشأن العام، فضح وعرّى أساليب السيطرة الغربية على مجتمعاتنا، وسد ذرائع الجهل بالمؤامرة، فهل نطمع في وقفة على الطريق لتصحيح المسار، قبل أن تجرفنا القروض الأجنبية الضائعة في مشروعات طرق وبنية تحتية لخدمة المستثمر الذي لن يجيء، إلى حيث لا ينفع الندم.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024