آراء وتحليلات
غزّة سؤال المستقبل المصري
أحمد فؤاد
تضع الحياة لمسيرة الإنسان تحديات كبرى، بعضها ارتقى ليكون أقرب لنقطة تحول تاريخية فارقة، يكون ما بعدها بالكامل قائمًا على الطريق الذي اختاره بلد ما إجابة عن تحدياته وواقعه ورسمًا لآماله، وهل كان فعله يرتفع لمقام الظرف أم لا. هكذا تعلمنا التجارب وتفسر أن المستقبل لا يبنى على الصدفة ولا يخضع للحظ، بل هو حصاد منطقي للأفعال والخيارات في لحظات المجد، كذلك في أزمنة السقوط السوداء.
مصر في حرب غزّة فقدت الكثير، وعند أي مستوى، فقدت دورها كدولة عربية بالأصل. مصر الآن تنتمي إلى محور أعداء العالم العربي وأعداء القدس، فقدت ثقة محيطها وأمتها فيها. ونزيف الثقة هذا إن بدأ لن يعوض، ثمّ هي خسرت نفسها –بالمعنى المجرد - حين تخلت عن قيمها وانتمائها وطلقت عروبتها. مصر لم تعد دولة صغيرة دورًا ومكانة، بل تحولت إلى الأسوأ: دولة ساقطة.
في أي حديث عن "طوفان الأقصى" المبارك، وتلك الأمة التي ارتضت واختارت عن قناعة كاملة، يسندها إيمان ويدفعها الشرف وتلزمها الإنسانية بأن تقدم ثلة من أشرف وأطهر وأعز أبنائها، قرابينَ للحق والمسؤولية الأخلاقية والدينية، وطوابير جديدة تنتظر دورها في علياء مقام الشهداء، فإن البعض الآخر قد قرر، وبمنتهى اليقين الشيطاني، أن يبيع وأن يخون، وأن يتحول إلى تاجر دولي رخيص يتاجر بلحم أخوته وأطفالهم، وأن يبحث كما الضباع عن لقمة نتنة قد تكون باقية من فتات موائد القوى الكبرى، التي يظن واهمًا أنها تسيطر على المنطقة، حاضرًا ومستقبلًا.
في أول فروض "الحساب" عن عملية "طوفان الأقصى" والتي تروجها شخصيات وأبواق ضالة مضلة، فإن المقاومة - بحسابهم - قد أخطأت حين فتحت جبهة قتال مع عدو متفوق، يملك كلّ أسباب القوّة والإمكانيات، وبنظرتهم المادية الحقيرة فإنهم يحذرون من كارثة إنسانية، ويطرحون في المقابل حلًّا بسيطًا: هو أن تعلن المقاومة استسلامها، والرؤية الصهيونية الشيطانية تبرر ذلك بأنه إنقاذ لمليونين وثلاثمائة ألف إنسان محاصرين في القطاع الباسل غزّة، وينتظرهم الموت جوعًا أو قصفًا.
من الغريب أن التاريخ العربي يعيد نفسه، وأحيانًا بالمقلوب، فترى عيون الخونة وأرباب الذلة أن الثائر المقاوم هو الجاني، وأن الدمار الذي يمارسه الطاغية في الأرض إفسادًا وتقتيلًا وحصارًا ما هو إلا رد فعل على فعل المقاومة، ولأنه من العبث أن نناقش من سيطر الشيطان على قلوبهم، واستمرأت نفوسهم جريان الأوراق الأميركية الخضراء، كلما جاؤوا بفكرة جديدة لطعن أشرف وأعظم أبناء الأمة في ظهورهم، فإن لنا أن نقدم –وبالحساب المجرد - وبالأرقام الجامدة، وهي بطبعها عديمة الانحياز، كشفًا لما جرى في 141 يوم قتال، هي أنبل أيام الأمة العربية في تاريخها الحديث.
لم يكن سرًّا ولا نبوءة أن المقاومة إن قررت الاحتكام إلى السلاح، دفاعًا عن القدس والمسجد الأقصى المبارك، فإن الكيان الصهيوني سيجن، وسيمارس واحدة من مذابحه الكبرى بحق الشعب الفلسطيني، لم يكن سرًا ولا قراءة للطالع أن يعرف محور المقاومة يقينًا - وترتب عليه - أن الولايات المتحدة الأميركية ستأتي إلى المنطقة بقضها وقضيضها، وأنها إن دعت الحاجة أو شعرت أن الكيان اهتز، فإنها ستتدخل عسكريًا، ومباشرة، إلى جانب قاعدتها المتقدمة في المنطقة. قالها جو بايدن في زيارته للكيان: "لو لم تكن "إسرائيل" موجودة لاخترعناها"، وبالتالي فإن كلّ من يتحدث عن خطأ حسابات المقاومة أو خلل تقديراتها، عليه أن يراجع خلله النفسي والعقلي، ويراجع قبلهما دينه وشرفه، هذا إن توفّرا من الأساس.
لكن هل كان تقدير محور المقاومة للصراع الحالي يشوبه بعض النقص، أو تنقصه بعض الفروض اللازمة؟!
في الواقع فإن الإجابة بنعم، إجابة يطمئن فيها القلب إلى سلامة العقل والضمير. من الطبيعي أن يتصور المخطّطون لعملية طوفان الأقصى مفاجآت ومزالق طوال فترة الحرب، وهي طالت أكثر مما كان يقدر أحد، 141 يومًا كأطول جولة قتال مستمرة بيننا وبين العدوّ على الإطلاق، ولكن بالتأكيد فإن الطعنة التي أتت إلى الظهر من دول عربية عدة، وعلى رأسها مصر، كانت تشوب تقدير الموقف، من أول لحظة وإلى اليوم.
بالتأكيد تصور المخطّطون الفلسطينيون للعملية، أن القاهرة على أقل تقدير، لن تجاري سياسة حصار غزّة تمامًا، لن تسمح على الأقل بالتجويع، لأنه أمر يهدّد سياستها هي وأمنها هي، لم يتخيل من وضع سيناريو العمليات أن مصر بهذه البساطة ستتطوع وتسقط في عراء تقديم كلّ أوراقها دفعة واحدة للعدو الصهيوني والأميركي. على الأقل كانت ستتوافق في 99% مع مطالب الكيان، وتحتفظ لنفسها بمساحة للمناورة، سواء للتجارة بموقفها داخليًا، وهو مهتزّ مهما بدا باطشًا اليوم، ثمّ للحصول على مكتسبات تسندها في حالة اقتصادية أقرب التوصيفات لها هو "مريض على أجهزة الإنعاش الاصطناعي لن يستطيع الحياة ساعات دون قروض ومساعدات تعوض فشله وخيبته".
الوضع الاقتصادي المصري اليوم بدأ مرحلة "الجوع". أصبح من العادي أن تجد أسرًا بالكامل تتسول طعامها، وسط الانخفاض الشديد للقدرة الشرائية والقيمة الحقيقية للنقود. وهذا كله يردنا إلى حديث الأرقام "الرسمية": يبلغ رصيد الديون المصرية الداخلية 8312 مليار جنيه، ارتفاعًا من 1816 مليارًا في 2014، وشهد الدين الخارجي ارتفاعًا قياسيًا هو الآخر ليصل إلى 165.361 مليار دولار حاليًا، علمًا بأنه كان قد بلغ نحو 46.1 مليار دولار في الفترة ذاتها، وترتب على هذا السفه الواضح في الاقتراض سلسلة متتالية من الأزمات، وصلت إلى ذروتها مع موازنة الدولة للعام المالي الحالي 2023/2024، حيث رصدت لسداد فوائد الديون 1120 مليار جنيه، بالإضافة إلى 1315.9 مليارًا لسداد أقساطها المستحقة. ولتبيان مدى فداحة الرقم، فإن 2124.1 مليار جنيه تمثل 113.7% من إجمالي إيرادات مصر بالموازنة، أي أن القروض الجديدة ستذهب بالأصل لسداد مدفوعات وفوائد القروض القديمة، وبشكل عام فإن 81.4% من كلّ المصروفات في الموازنة تذهب للدائنين، في ما يتبقى الخمس لكل بنود المصروفات، الرواتب، الإعانات الاجتماعية، الدعم، التعليم، الصحة، البحث العلمي.
وأمام مصر جدول سداد مرهق جدًا ومزدحم للغاية: في النصف الثاني من العام الجاري 2023، يستحق دفع 11.327 مليار دولار أميركي (أقساط ديون + فوائد)، وذلك وفقًا لتقرير الوضع الخارجي للاقتصاد المصري الصادر عن البنك المركزي المصري، وخلال 2024 سيستحق نحو 28.049 مليار دولار أخرى، وحتّى العام 2028 من المفترض أن تسدد مصر للديون الخارجية 83.8 مليار دولار أميركي، مع الأخذ في الاعتبار أن الموازنة تعاني بالأصل من اختلالات هيكلية وعجز دائم ومزمن، وهذا الوضع الملغز لن تفيد في حله حتّى المعجزات.
ليلة الجمعة، في اليوم الـ 140 للحرب على غزّة الصامدة، والجبهات المشتعلة في جنوب لبنان واليمن، إسنادًا بطوليًا حقًا وكريمًا لإخواننا المجاهدين، والأثمان التي يتحملها الجنوب العزيز الصابر، والتهديدات والغارات الأميركية والبريطانية على اليمن، والتي باتت لا تهز طفلًا يملؤه الإيمان بقيم العدالة والشهامة، فإن رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي اختار أن يخرج في مؤتمر –قال عنه إنه عالمي - ليزف البشرى لشعبه الحبيب، بأن الأشقاء في دولة الإمارات العبرية - ليس هناك خطأ في الكتابة - قد قرروا دعم مصر بعشرات المليارات من الدولارات، في ما سماه هو استثمارًا بمنطقة رأس الحكم.
هناك قول مشهور: "وراء كلّ ثروة كبيرة جريمة عظيمة"، وفي مصر يمكننا القول: "وراء كلّ دولار واحد خيانة أو مشروع خيانة"، والأيام أقرب حكم على "هل ينجح نظام باع مواطنه قبل الشقيق مقابل الرضا الغربي والدولار"، أم أنها كلها محاولات تستر الفضيحة الكاملة، وهي كما عودتنا حكومة القاهرة ليست أكثر من مسكنات، تتحول بطول المدة وزيادة الجرعات إلى مخدر، ويصبح هو بنفسه عنوانًا لواقع لا يرى ولا يسمع، وإن رأى وسمع لا يفهم، ورقم الـ 35 مليار دولار التي قالها مدبولي بفخر وكأنه فتح عكا، لا تكفي لمواجهة "فوائد وأقساط القروض" حتّى سبتمبر 2025، أي أنها على أفضل الفروض، وإن تمت للنهاية، فإنها ليست أكثر من حقنة منشط لجسد عليل.
هذا ما ستحمله الأيام القادمة، ما الذي باعته مصر، وأغلب الظن أنه لن يكون بعيدًا عن فتح باب "التهجير"، مع تجهيز مناطق لاستقبال النازحين الفلسطينيين في سيناء، أم سيكون بالونة وهم أخرى، أعتاد الجنرال الحاكم بأمره أن يلهي بها ضيوف مؤتمراته من حين لآخر، لكن الأكيد أن لقمة الذل هذه، وإن أتت، فإنها لا تدوم، ودم الشقيق لعنة مؤذنة بالخراب العاجل.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024