آراء وتحليلات
"إسرائيل" للغرب: أبقى أو نسقط سويًا
د. احمد الشامي
حين قرر الغرب بوعده المشؤوم أن تكون فلسطين كيانًا يجمع الشتات اليهودي بديلًا عن مخطّط أوغندا، خاطب زعماء الصهاينة المملكة البريطانية بعبارات دالة على حجم قلقهم من هذا الخيار، ومن إمكانية استمرار كيانهم وسط بيئة اجتماعية تكنّ لهم العداء.
فجاء جواب الطمأنة على لسان "مارك سايكس"، ممثل بريطانيا في اجتماعات تقاسم التركة العثمانيّة، قائلًا لهم: إنّ العرب عامّة لا يشكّلون أي خطر آني أو في المستقبل على مصالحنا، فالانقسامات القبليّة والحزبيّة والإقليميّة مستحكمة فيما بينهم، ما يجعل من وحدتهم الفعليّة أمرًا مستبعدًا.
خمسة وسبعون عامًا مضت على تأسيس الكيان الإسرائيلي، وبفضل الحماية الغربية لتلك المعادلة، يرتبط استمرار الشتات اليهودي في الكيان الإسرائيلي بتشتت دائم للكيانات المحيطة.
يمكن القول إن التزام الدول الغربية بتوفير حماية دائمة لـ"إسرائيل" بما يحفظ دورها كوكيل عنهم في المنطقة، قد شهد في الآونة الأخيرة تناميًا كبيرًا، عبر إدخالهم لبنان وسوريا والعراق في حصار وصراعات داخلية، وإشغال الخليج في حرب مع اليمن، وتنمية حالة العداء مع إيران، وتفكيك السودان، وتزكية الحرب الأهلية في ليبيا، وإرهاق المصريين بلهاث السعي الدائم خلف لقمة العيش.
وحتى شهر اكتوبر من العام 2023، كادت القضية الفلسطينية أن تدخل في دائرة النسيان، حيث الزحف العربي نحو اليهود الصهاينة للتطبيع معهم، وعلت الدعوات لاعتبار الأردن موطنًا طبيعيًا للفلسطينيين، وأن لبنان يجب أن يقسّم.
كثُر هم الذين رجموا المقاومين في غزّة بنعوت التهوّر، والتفرّد، حين أعلنوا عملية طوفان الأقصى، التي لم تقتصر بنتائجها حتّى الآن على الإطاحة بما وفره الغرب لليهود الصهاينة من وجود مرحّب به وآمن في العديد من دول العالم العربي، بل إن هذه العملية قد وضعت الدول الغربية في موقف صعب ومحرج للغاية، فالمجتمعات التي تحيط بالكيان الإسرائيلي تبين أنها ما عادت ساحات متفرقة تفصل بينها انقسامات قبليّة ومذهبية، بما يُناقض تلك النبوءة البريطانية التي استُنِد إليها كضمانة لبقاء هذا الكيان.
يجري ذلك فيما جيش العدو الإسرائيلي الذي بنوه ليكون عصا غليظة تؤدب المنطقة وترهبها، بات عاجزًا وهو يطلق نداءات الإغاثة من الدول الغربية لنصرته، فيما هم يواجهون تحديات عسكرية أمام روسيا في أوكرانيا، واقتصادية أمام الصين وتكتل البريكس، وأيديولوجية أمام إيران.
والذي يزيد موقف الغربيين حراجة هو أن الإدارة اليهودية الصهيونية التي رعوا تطرفها، وصارت هوية كيانهم الممتدة من البحر إلى النهر، باتت تعتبر الآن بأن تقديم التنازلات للفلسطينيين بمثابة تناقض مع هويتها بما يدفع كيانهم نحو الزوال.
لذلك، هم في مواقفهم المتشددة يجرّون الغرب إلى مواقف شديدة التعقيد في المنطقة، غير آبهين بنتائجها، وكأنهم يقولون لهذا الغرب: أنتم من زرعنا في هذه الأرض، وأنتم من شارك في صياغة سرديتنا التلمودية حول أرض المعاد، وأنتم عليكم الالتزام بتعهداتكم.
مجددًا تحاول الإدارة الغربية أن تفعّل سياساتها القائمة على مبدأ: فرّق تسد، من خلال سعيها الدؤوب لتبريد ساحات المقاومة - بالترهيب والترغيب - كمقدمة لاحتواء الطوفان الفلسطيني، ولكن المستجد الذي أدركته الإدارة الغربية بأن هذه الساحات باتت تدار بعقلية لم يعهدوها من قبل.
تخشى الإدارة الغربية على الكيان الإسرائيلي إذا ما فرضت عليه تقديم تنازلات للفلسطينيين ما يؤدي فعلًا إلى ضعفه ثمّ زواله، كما تخشى من استمرار الكيان في الحرب كمن يبعث برسالة الى الغرب: أبقى أو نسقط جميعًا.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024