آراء وتحليلات
رواية الهزيمة الكاذبة
أحمد فؤاد
" الحق لا يعرف بالرجال، وإنّما يعرف الرجال بالحق".. مهما كان الواقع غامضًا أو التبست المواقف والأقوال والأفعال، تبقى هذه الحكمة المحمّلة بالنور الإلهي، على لسان أمير المؤمنين –ع- قادرة على سبر أغوار أشد الوقائع تعقيدًا وأكثر السياقات الملغزة صعوبة، وتفكيك الشبهات التي تبنيها أطراف فاعلة أو مجرمة عن عمد وعن سوء قصد، واستخراج الحق من أضلع ظلام الضلال.
اليوم، وبعد 46 نهارًا من القتال والصمود والصبر، دخلت "الهدنة الإنسانية" في غزة إلى حيز النفاذ، وكما أنها فرصة للشعب الفلسطيني الصامد لالتقاط الأنفاس، تهبنا هذه الساعات الثمينة فرصة لإعادة معاينة ما تحقق لمحور المقاومة، في ثاني أطول جولة قتال في تاريخ الصراع العربي-الصهيوني، ومحاولة قراءة ما حدث فعلًا، وعلى الأرض، بعيدًا عن الاندفاع وراء الأمنيات أو وساوس القلق وكوابيس الخوف.
الإعلام العربي، صاحب القلب العبري، يحاول أن يمرّر مع وقف النار المؤقت أهدافه الخبيثة، فصور الموت والدمار والأشلاء الممزقة والركام والأنقاض، هي المسيطرة والحاكمة، وإعادة تمثيل الأكذوبة الكبرى في التاريخ الإسلامي، والتي أعيدت بكل حماس في قصة "الحشد/داعش" القريبة، حيث يتحول الفارس النبيل إلى مجرم والشيطان إلى قديس، تتيح لهم تقديم صورة أن المقاومة تصنع الدمار، فيما يخرج الصهيوني وإجرامه وطغيانه تمامًا من المشهد والمعادلة.
ولأن ما جرى بالفعل هو "هدنة إنسانية" وهي أقرب إلى الانهيار منها إلى الثبات، واحتمالات توسعها أكثر من فرص لملمتها، ولأنها تعبر ببساطة عن "مأزق" قتال للكيان والولايات المتحدة وأنظمة الخيانة العربية أكثر منه أهدافًا ثابتة.. فقد حققت المقاومة حالًا من الصمود الأسطوري، منعت تمامًا الانهيار أو الاستسلام، وحققت تاليًا بقواها الذاتية تعادل القوى ودمرت فرص العدو في تحقيق أية "صورة نصر"، وهذه الحال ستعيد الحوار من الطاولات الدبلوماسية إلى ميادين الدم والنار مرة أخرى.
فما الذي جرى فعلًا؟
يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر؛ كنا على موعد مع واحد من أجمل أيام التاريخ العربي الحديث، فقد حطمت المقاومة في غزة أسطورة العدو الذي لا يقهر، مرة واحدة وإلى الأبد، وكسرت أنفه ومرغت وجهه في التراب والدم، وكتبت –من جديد- أن الخطأ التاريخي الذي أدى لوجود الكيان كان ذنبنا نحن، وأن استمراره لـ 75 عامًا لم يكن يعني شيئًا سوى عجزنا وتفرقنا وتشتتنا نحن.
كانت اللحظة فارقة، فالكيان قبل أيام قليلة من الحرب، نجح في أن يصل إلى واحد من أهم أولوياته الإستراتيجية، التطبيع مع السعودية ومن ورائها الخليج كله، بما تحققه من نقلة نوعية هائلة من كيان منبوذ وسط محيط معادي بالكامل، إلى قائد جديد للمنطقة وطرفًا وازنًا وثقيلًا في معادلاتها. هذا بالإضافة بالطبع لما يجره من مصالح مادية مباشرة عليه اقتصاديًا وسياسيًا، ويحول محور المقاومة في لبنان وسورية والعراق واليمن إلى "العزلة" وسط محيطها العربي الشاذ!
ربما كان هذا التاريخ بالذات يستحق التخليد وأوسمة المجد، وأن نذكره بالإعزاز والفخر دائمًا، كان الطرف العربي للمرة الأولى على الإطلاق يستبق الصهيوني إلى المبادرة بالنار والبارود، ويجرده من ثالوثه المقدس "الردع- المبادأة- الحسم"، في كل الحروب السابقة كان الكيان كالحيوان الشرس، لا يجرؤ على إثارته أحد بالخوف من الردع، ثم إن تجرأ أحد؛ فإنّ الضربة الصهيونية العسكرية تأتي فورًا، ساحقة مدمرة، وتحمل معها الحسم في أيام قصيرة جدًا.
الوضع الدولي، خلال الحرب، هو الآخر يستحق وقفة. فحكومة العدو بقيادة بنيامين نتنياهو عدّتها معركتها الأخيرة، وكان على استعداد للذهاب في إجرامه إلى أبعد مدى، وقبله الولايات المتحدة بقيادة بايدن "المخرف" الذي يعرف يقينًا أن نهايته قريبة جدًا، فكان على استعداد هو الآخر لمنح الكيان شيكًا على بياض للتصرف، ووضع كامل الترسانة الأميركية في خدمة المجهود الحربي الصهيوني، والدخول طرفًا مباشرًا ومشاركًا في ميدان القتال، منذ اللحظة الأولى.
ما الذي تغير؟
يمكن تلخيص وجهة نظر المقاومة عبر كلمات قليلة وردت، في خطاب الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله، حين أكد أنها "معركة الصمود ومعركة الصبر ومعركة الوقت".. الأمين منح الفرصة لرؤية جديدة تمامًا للأمة العربية كلها، نحن أمام عدو يريد حرق المنطقة كلها –لو استطاع- فالمصلحة العربية العليا تقتضي فرض "حرب استنزاف" مرهقة وطويلة، لن يكسبها سوى الطرف الأطول نفسًا والأقدر على التمسك بسلاحه وأرضه، ولأننا ببساطة لا نملك أرضًا غيرها، فسننتصر حتمًا.
من المبادئ الحاكمة لصراعنا مع العدو الصهيوني، إن كل طرف عربي عاجز -وحده- عن مواجهة إمبراطورية الشر الأميركية، لا أحد يمكنه امتلاك طموح الصمود أمامها، مهما كانت النوايا صادقة، والإمكانات حاضرة مسخّرة للمعركة، القوة الأميركية مفرطة الجبروت لو ركزت على جبهة واحدة.
اليوم؛ يقف الأميركي والكيان أمام جبهات متعددة، في فلسطين ولبنان والعراق وسورية واليمن، ومع اتساع الصراع وطول مدته، وبدفع من الجرائم الوحشية للكيان وعصاباته، والصمود الأسطوري للمقاومة الفلسطينية البطلة في غزة، فإنّ دخول العراق واليمن إلى الميدان بات حقيقة واقعة، بما تحمله من فرص هائلة وتملكه من إمكانات تتيح لنا تصور "نصر كامل" على الشيطان الأميركي.
اليوم؛ نستطيع وضع سيناريو قادم للمنطقة من دون الكيان، للمرة الأولى يصبح السياق واضحًا لعالم عربي جديد بلا سرطان في وسطه.. اليوم؛ أيضًا بدأ الوعي العربي يرى بالعين القوة الأميركية وهي تقصف وتنزف يوميًا في العراق وسورية.. اليوم؛ تحقق وعد الله للمستضعفين الذين يقاتلون، حتمية التاريخ وقدر انتصار المقاومة الصابرة المؤمنة.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024