آراء وتحليلات
قراءة التاريخ وخيارات أمريكا و"إسرائيل" في ظل طوفان محور المقاومة
محمد أ. الحسيني
تكتسب قراءة التاريخ أهميتها بتوفيرها إمكانية استخلاص العبر، فضلًا عن إعادة رسم المسارات وفق النتائج التي أفضت إليها محطات والحوادث والتطوّرات، والانتقال إلى تشكيل بُنى فكرية وعملية جديدة؛ وقد تقود العبر أحيانًا إلى تغيير أو تعديل في المنطلقات والأهداف. إلا أن قراءة معطيات التاريخ، في ما يتعلّق بمراحل ومحطات المواجهة مع "إسرائيل"، على جبهة فلسطين ولبنان تحديدًا منذ العام 1982 حتى اليوم، تقود إلى مجموعة من الخلاصات التي تشير بمعظمها إلى أن "إسرائيل"، كما الولايات المتحدة الأمريكية والغرب عمومًا، لم يتعلّموا الدرس ولم يحسنوا استخلاص العبر، على الرغم من تداول الأجنحة السياسية الحكم في هذه الكيانات، وقد يكون ذلك عائدًا إلى الاتجاهات الذهنية الثابتة في كينونة الهويّة الاستعمارية وقوالب التفكير لديهم، سواء في النَّظْرَة إلى العرب أولًا، أو في عدم تقبّلهم واقع التغيّر أو التميّز للخصوم، وأعني هنا المقاومة في لبنان وفلسطين.
الثأر من العثمانيين
كان اختيار فلسطين كرقعة جغرافية مناسبة لزرع الكيان الصهيوني، لا يتصل فقط بتوطين اليهود وتجميعهم من شتات الأرض تأسيسًا على مقولة "أرض الميعاد" الدينية، بل بما يرتبط بتوظيف هذا الوجود ضمن مشروع جيواستراتيجي يقود إلى هيمنة الغرب على المنطقة أولًا والشرق كله ثانيًا، تمهيدًا لبسط الهيمنة على العالم برمّته، وتتحرّك في خلفية المنطلقات دوافع مبنية على جذور انتقامية تعود إلى عهود الإمبراطورية العثمانية التي حكمت الأقاليم مئات السنوات وأسّست على توسّع الفتوحات العربية، وامتدّت حتى كادت تبتلع ثلاث أرباع أوروبا؛ أدّى اليهود دورًا في السابق في تفتيت هذه الامبراطورية في سنوات انهيارها وتنازع سلاطينها للحكم، ونقلها إلى الحظيرة الغربية؛ ويرى الغرب أن الدور نفسه نجح حتى الآن في الميدان العربي الذي استنسخت أنظمته التجربة العثمانية نفسها، وبالتالي فهي تسير في سياق المصير العثماني نفسه.
حرس الثورة في لبنان
لم تتغير السياسة الغربية في منطلقاتها وأهدافها، وتحديدًا منذ القرن الثامن عشر حتى اليوم، ولئن تبدّلت الوجوه والتسميات والنظمة المهيمنة إلا أن المشروع لا يزال كما هو، والوجهة كما هي، ولكن الذي اختلف منذ العام 1982 حتى اليوم هو نشوء خَصْم مختلف بدأ يتبلور بشكل فعلي بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني (قدس سرّه)، الذي كان ـــ في خضم اشتعال الحرب المفروضة مع نظام صدام حسين، وعلى الرغم من تكالب الأنظمة العربية والعالمية للقضاء على النظام الإسلامي الناشئ ـــ المبادر الأول إلى إرسال المتطوّعين الإيرانيين للقتال إلى جانب الفلسطينيين واللبنانيين في مواجهة الاجتياح الإسرائيلي آنذاك، وكانت سوريا حافظ الأسد المعبر الوحيد الذي فتح أبوابه أمام وصول كوادر ومقاتلي حرس الثورة للانضمام إلى جبهة قتال "إسرائيل"، فيمَا اكتفت الأنظمة العربية الأخرى بالإدانة والعويل الكاذب، وتولّت في الغرف السوداء مهمة الضغط على ياسر عرفات والحركة الوطنية باتجاه إخراج تسوية ذات غطاء عربي لتعميم تجرِبة "كامب دايفيد"، وإدخال المنطقة كلّها في سياق التسوية الشاملة، وتشكيل محور إقليمي للقضاء على إيران في ظل بروز شواهد على فشل نظام صدام حسين في القضاء على إيران.
خطوط الردع الحمراء
منذ ذلك الحين بدأ منحدر السقوط الغربي – الإسرائيلي، وتحديدًا في لبنان وفلسطين، وكرّت سبحة الهزائم. إيران انتصرت وثبّتت حكمها القوي، "إسرائيل" انسحبت بشكل تدريجي، وانهزمت في ملحمتي 1993 و1996 حتى اندحرت بشكل شبه كامل عام 2000، ثم جاءت الضربة القاصمة عام 2006 لترسم المقاومة الإسلامية في لبنان خطوط الردع الحمراء جوًا وبحرًا وبرًا، وعلى المقلب الفلسطيني لم يختلف المشهد، بل كان مؤلمًا أكثر للكيان الاحتلالي، فقد اضطرمت الانتفاضات المتلاحقة في كل المناطق المحتلة، وحوّلت العمليات العسكرية والاستشهادية والعبوات المتفجّرة كيان العدو إلى رمال متحركة، وفشلت الحملات العدوانية الإسرائيلية قبل وما بعد انسحاب العدو من قطاع غزة عام 2005 وحتى اليوم، لترسم المقاومة في فلسطين بدورها خطوط الردّ الحاسم، وصولاً إلى "طوفان الأقصى" الذي كرّس قاعدة "الفعل" وليس "ردّ الفعل"، وهذا بحد ذاته معطى زلزالي زعزع تماسك الكيان اليهودي، فكيف بنتائجه الكارثية التي استهدفت المرتكزات التي قامت عليها "إسرائيل".
مسلسل سقوط جنرالات الحرب
لم يقرأ الغرب و"إسرائيل" التاريخ جيدًا، ومشاريع الهيمنة وتشكيل الشرق الأوسط الجديد (تحدث عنه وزير الخارجية الأمريكية ألكسندر هيغ في عهد رونالد ريغان عام 1982) آيلة إلى السقوط، وهذه المرّة بالإزميل الفلسطيني، وكما أدّت انتصارات المقاومة الإسلامية في لبنان إلى فرط حكومات وترحيل قادة ومسؤولين في "إسرائيل"، منذ يبغن وشارون مرورًا ببيريز وباراك وأولمرت وصولًا إلى نتنياهو، يقف الكيان اليهودي أمام مَفصِل تاريخي سينتج عنه تداعيات مؤلمة وعميقة، لا تقف فقط عند حدود اعتراف "إسرائيل" بالهزيمة بل أيضًا بإعادة تشكيل هذا الكيان بكامل مؤسساته وأجهزته السياسية والعسكرية والأمنية، دون أن نغفل التأثير الجوهري الذي تلحقه المقاومة في لبنان وفلسطين في أصل فكرة المشروع الاستيطاني على أرض فلسطين، فلم تعد "إسرائيل" أرض الميعاد وأرض اللبن والعسل، بل تحوّلت إلى أرض الموت والقتل.
ما خيارات أمريكا؟
قراءة التاريخ الجديد الذي بدأ منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر في "طوفان الأقصى" تفيد بأن الأمريكي الذي قاد كل حروب "إسرائيل" يعمل اليوم بكل اندفاع سياسي، بعد فشل مشروع التهجير الفلسطيني، للحيلولة دون توسّع دائرة النار لتشمل المنطقة كلّها مع جهوزية جبهات قوى المحور في لبنان واليمن والعراق وإيران للدخول في الحرب، وهو ما يهدّد بسقوط كل المشروع الغربي بدءًا من زوال الكيان المؤقت وصولًا إلى طرد أمريكا كلها من المنطقة؛ ويبدو أن محاولات نتنياهو تحقيق إنجاز ميداني على الأرض لامتلاك أوراق قوى في التسوية المفترضة يواجه حتى الآن عنادًا متفوقًا في المواجهة تحققه حركات المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وتحمّله خسائر كارثية لا يمكن أن يتحمّلها المجتمع اليهودي، ولعلّ أفضل ما يمكن للأمريكي تحقيقه في ظل التقهقر الإسرائيلي هو إرساء هدنة طويلة، يتم خلالها إتمام صفقة تبادل للأسرى، الأمريكيين منهم بالخصوص، ومحاولة ترتيب معادلة تسوية جديدة بغطاء عربي مع الحفاظ على ما تم تحقيقه على مستوى التطبيع مع العدو، ودفع الأمور إلى الأمام كفرصة زمنية سعيًا لترميم ما أمكن في النظام السياسي الإسرائيلي أو إعادة تشكيله برمّته.. وفي كل الحالات سيبقى محور المقاومة وفي قلبه فلسطين صاحب اليد العليا.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024