آراء وتحليلات
وهم التفوق الاسرائيلي.. "طوفان الأقصى" وكَسرُ الأسطورة
أحمد فؤاد
"يا فلان ابن فلان أَليسَ قدْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فإنِّي قدْ وَجَدْتُ ما وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا"..
حديث للنبي الأكرم (ص)
تواصل المقاومة الفلسطينية الباسلة تقديم سلسلة دروسها للعالم العربي الواسع من ورائها، في مدى قدرة الشعوب على خلق التغيير الذي تريده، وعلى كسر كل شروط الوضع القائم، مهما كان بائسًا وهشًا، وعلى تحطيم كل معادلات الحركة والعمل، مهما كان العدو، ومعها تقدم لنا ما يشبه تصورًا عمليًا لطي صفحة عصر الهيمنة الأميركية الكاملة، على المنطقة وشعوبها ومستقبلها.
الفارق المروع الذي استطاع المقاتل الفلسطيني فرضه، في الساعات والأيام الأولى للمعركة، هو أنه صعق العدو على طريقته المفضلة، بالحرب الخاطفة التي كانت الخيار المفضل للكيان في التعامل مع الجيوش العربية الرسمية، أو بالتعبير الأميركي التسويقي الشهير "الصدمة والرعب"، وسبب هذا التغيير ما يشبه الصدمة العصبية للكيان الصهيوني، الذي وقف ليومين متتاليين عاجزًا عن الاستيعاب أو عن الحركة.
والحرب الخاطفة كما مارسها نابليون، وكما كررها واستنسخها قادة المدرعات الألمان في بدايات الحرب العالمية الثانية، وكما تعلمها ومارسها قادة العدو في كل الحروب العربية، تعتمد على ضربة مطرقة ثقيلة على الرأس وعلى المراكز العصبية الحساسة، في اللحظات الأولى للمعركة، وقبل أن يفيق الطرف المقابل، يجد أن قوات العدو قد توغلت بعيدًا في خطوطه، ومزقت دفاعاته، ثم اندفعت إلى ما ورائها، بشكل يفقده أية قدرة على الثبات أو اتخاذ القرار، يصاب بما يشبه "الشلل"، وتنتهي الحرب قبل أن تبدأ فعلًا.
خلال ساعات القتال الأولى، في حرب "طوفان الأقصى"، وجهت المقاومة الفلسطينية ضربات صاروخية هائلة إلى كل مدن فلسطين المحتلة، واستطاعت بكفاءة وقدرة شل فاعلية كل أوهام العدو من دفاعات ونظم إليكترونية، لا القبة الحديدية نفعت ولا مقلاع داوود أفلح، ثم تمثلت المفاجأة الكبرى في عملية الهجوم البري على كل المستوطنات المجاورة لقطاع غزة، وقتل أو أسر كل من فيها، والاستيلاء عليها. هذا "الاكتساح" الشامل حرر مساحة من الأرض تفوق مساحة القطاع المحاصر من الكيان والنظام المصري، ثم قربت المسافة الفاصلة مع الضفة الغربية إلى 10 كيلومترات فقط لا غير.
ورغم لعبة الأرقام التي يمارسها ويجيدها العدو، فإن عدد قتلاه في العملية خلال الـ 72 ساعة الأولى، تجاوز 1100، والجرحى بالآلاف، والنتيجة المباشرة التي وصلت إلى المجتمع الصهيوني هي أنه في الحرب ما من عاصم من أمر المقاومة، السماء من فوقكم تمطر نارًا، والأرض من تحتكم تنبت رعبًا وموتًا ودمارًا هائلًا، والموت من كل اتجاه يأتيكم، من البر والبحر والجو، وهي ذاتها العقيدة العسكرية التي كان يقوم عليها العدو، ويصدرها لنا عند أول لحظة في كل حرب.
وأظهرت مقاطع الفيديو التي بثتها فصائل المقاومة الفلسطينية ذكاءً ألمعيًا بالغًا في التعامل مع تقنيات الدفاع الجوي للعدو، التي كان يؤكد –لسنوات طويلة- وبثقة أنها الأفضل في العالم، عبر ضربات صاروخية كبيرة، ثم إطلاق الطائرات الشراعية، المصنوعة بطريقة بسيطة، باستخدام الأخشاب والحبال ومحرك يماثل محركات الدراجات البخارية، والتي عبرت خطوط دفاعاته واستحكاماته بسلاسة وسرعة، ودون أن ترصدها الرادارات وأجهزة الإنذار، ثم أنزلت المقاتلين خلف مواقعه، وسيطروا على النقاط الحصينة في منطقة "غلاف غزة" والجنود الصهاينة مأخوذون بالمفاجأة ومشلولو الحركة والقدرة والفعل، ليثبت الفرد في هذه الأمة –من جديد- أننا لسنا أقل عقلًا ولا كفاءة من غيرنا، بالوعي والإيمان وحدهما نستطيع أن نقهر سنوات التخلف والغياب، ونكسر فجوة الإمكانات المادية مع القاعدة الأميركية المتقدمة.
وحتى درة التاج في الصناعات العسكرية الصهيونية، الدبابة ميركافا بجيلها الأحدث، كان الجنود فيها يستسلمون ويؤخذون أسرى، بعد أن أفقدت الانطلاقة الفلسطينية الجبارة رغبتهم في القتال، وهو أمر سيكون له ما بعده، فلم يعد هذا الكيان يملك "جيشًا لا يقهر" بل جيشًا لا يظهر.
اليوم تكتب عملية "طوفان الأقصى" بما تقوم به المقاومة في المدينة العزيزة الباسلة، غزة، من عمل عسكري محترف وراقٍ ومتكامل، وما يكفله لنا وجود حزب الله في المشهد، من ثقة صنعتها تجارب الدم وأكدتها السنوات والمواقف والمعارك، ضمانًا ووعدًا إلهيًا بهذه النهاية الحتمية لكابوس وجود الكيان فوق أرض فلسطين، وعلى قلب كل بلد عربي، اليوم فقط يمكن لعقولنا أن تتصور يوم النهاية لهذا الشيطان، وقطعانه تفر عبر المطارات إلى بلدانها الأصلية، حاملة كل ما تستطيع حمله، في رحلة المغادرة الأخيرة، مع انتشار الرعب في شوارع كل قرية وكل مدينة، الرحيل الآن أو الموت غدًا.
ما تحقق اليوم هو البداية الحقيقية لكسر أسطورة الوهم، ليس حول الكيان فقط، ولكن حتى امبراطورية الشر الأميركية، عبر تحطيم أهم أدوات نفوذها في العقلية العربية وهو "الهيبة"، إذ إنها ليست عنصرًا ماديًا ملموسًا تستطيع أية قوة عظمى حيازته بإرادتها، لكنه نتيجة معادلة شاملة تمثل قوتها العسكرية والاقتصادية وتعكس مساحة سيطرتها ووجودها، العنصر الذي يخيف رغم أنه مجرد صورة ذهنية تسبب الفزع والرهبة في نفوس الجميع، الحافز الذي توارى خلفه كل مطبع وكل خائن، باعتبار أن الحرب من أميركا احتمال فوق طاقة التفكير حتى.
هيبة الولايات المتحدة وسطوتها، وحتى الخشية من التورط ضدها، انتهت تمامًا وانهارت قلاعًا من وهم وتحطمت على صخرة الإرادة كل دعاوى الاستسلام والانبطاح والامتهان، وتحول الموقف من أحلام الصمود أمام الأميركي إلى وقائع تفرض على الأمة شيئًا آخر غير بيانات الغضب وخطابات الاستنكار، والرد الفلسطيني جاء بامتياز رفعًا لمستوى التحدي والآمال، وتقديم المثل والقدوة في ما يمكن للأمة أن تفعله، وأنه لا مجال للشعور بالنقص أو الوهن في حربنا الوجودية ضد الشيطان الأكبر.
تجسدت هذه الروح الجديدة في التعاطي مع إعلان وزارة الحرب الأميركية بتوجيه حاملة الطائرات الأحدث والأكبر "جيرالد فورد" إلى شواطئ فلسطين المحتلة، مع مجموعتها القتالية كاملة، وتضم 5 آلاف بحار وطائرات وطرادات ومدمرات، خبرًا مثل هذا كان كفيلًا في زمن ما بنشر الرعب والفزع من تدخل هجومي أميركي يقلب الموازين، أما اليوم فيمر بلا أثر، ولا يلقي له عاقل بالًا، إلا فيما يتعلق بتسجيل مواقف واشنطن الإجرامية في دعم وجود الكيان وإمداده، وهذا كله عن ثقة في قدرة المقاومة وثباتها على الأرض، ببساطة في تغير فهمنا ووعينا لحدود القوة الأميركية ومساحات تأثيرها المباشر على ميادين المعارك، والسقف المرتفع لآمال الشعب الفلسطيني، وللشعوب العربية التي ستقدم لها هزيمة الصهاينة فرصة ودعوة مفتوحة للتخلص من جلاديها الأنذال.
..
انطلق طوفان الأقصى من لحظة سقوط شامل، بإعلان عدد من الدول العربية، على رأسها السعودية، انخراطها في عملية تطبيع جديدة مع العدو، تحت غطاء عملية سلام جديدة، أن الولايات المتحدة كانت تريد "مراسم" سلام وليس عملية سلام، تحمل بتوقيع كل الأطراف اعترافًا بتخلي العالم العربي عن كل شيء، وترك كل الموارد وكل المصائر في يد واشنطن وحدها، والكيان كان –ولا يزال- يريد سلامًا صهيونيًا، يترك له كل الأرض المحتلة، ويحمل إليه مزايا التطبيع الكامل مع الدول العربية، والاعتراف المجاني بالوجود، والقبول غير المشروط بالدور الجديد لقيادة المنطقة.
لكن الفعل الفلسطيني بالنار وبالدم، استخدم واحدًا من أشهر أساليب الطب التقليدي في العلاج، بالكي والبتر، كي الوعي وبتر كل أسباب الانهزام، وترك الصورة مجردة تشرح وتكشف وتعلم الدرس الوحيد الصحيح، أن الشعب إن أراد فإنه يستطيع، وأنه ما من قوة تستطيع هزيمة إرادة شعب وكسرها، حتى لو جاءت الدنيا كلها لميادين المعارك.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024