آراء وتحليلات
رباعية الأبعاد في منطومة الإقتدار ـــ انتصار تموز نموذجاً: ضمان الأمن الاستراتيجي (3 – 4)
محمد أ. الحسيني
كشفت حرب تموز جوانب كثيرة من الترهّل في المنظومات القيادية السياسية والعسكرية للكيان الصهيوني، كما في منظوماته الأمنية، وأبرزت نقاط الضعف في قدرة جبهته الداخلية على التحمّل في واحدة من أطول الحروب التي شنّها العدو ضد طرف خارجي، وتعمّقت هذه الآثار حتى تجاوز الكلام الإسرائيلي التهديدات الأمنية والعسكرية ليصل إلى الحديث عن تهديد وجودي حقيقي يحيق بالكيان المؤقت، ولذا يندر أن تخلو المواقف السياسية والتحليلات والاستراتيجية والمقالات الإعلامية اليوم من التحذير من مستقبل أسود قاتم ينتظر "إسرائيل"، في ظلّ تعاظم قوى المقاومة واقتدارها في لبنان وفلسطين ودول المحور.
قد يضع البعض التهويل الإسرائيلي في خانة البازار السياسي الداخلي في ظل المرحلة الحرجة التي تواجه حكومة بنيامين نتنياهو، سعياً للتغطية على الإنقسامات الحادة التي تعتري المكوّنات السياسية الإسرائيلية، واستجماع المواقف وتوجيهها إلى الخطر الخارجي الداهم المتمثّل بقوى المقاومة، أو قد يراها البعض استغلالاً اعتاد العدو عليه كأسلوب إبتزاز سعياً لاستجرار المساعدات المالية والعسكرية من الولايات المتحدة وأوروبا بذريعة ضمان التفوّق النوعي في مقابل الطوق العربي، إلا أن التقدير الحالي للموقف يخالف هذه القاعدة، فالأنظمة العربية التي تشظّت خلال العقدين الماضيين، بدءاً من أحداث 11 أيلول 2001 والحرب الأمريكية على العراق، وتبدّل الأنظمة في ما يسمّى الربيع العربي، وصولاً إلى الحرب الكونية على سوريا واليمن .. لم تعد ضمن منظومة العداء للكيان الإسرائيلي، بل دخلت في نفق التطبيع والتسليم الشامل، وفي المقابل رسم خط التطوّرات الميدانية مساراً موازياً بدأ في انتصار تموز 2006 ويستمر حتى اليوم.
يبرز هذا المسار مجموعة من المتغيّرات الجيوستراتيجية التي جعلت الكيان الصهيوني يدقّ ناقوس الخطر حول إمكانية استمراره وبقائه، وأهمها:
ــ إخفاق واشنطن وتل أبيب في فرض التحكّم بجبهات رئيسية تمتدّ من داخل فلسطين إلى لبنان وسوريا فالعراق وإيران واليمن، وتحوّل هذا المحور إلى طوق فعلي يطبق على خناق "إسرائيل"، ويحدّد خياراتها في ما كان يسمّى "الردع الإستراتيجي"، فلم يعد هناك أي اعتداء إسرائيلي بلا ردّ، وأي تجاوز لحدود المسرح العسكري قد يستدرج سيناريو مدمّراً لن يتحمّل العدو نتائجه، وسيعيد "إسرائيل" إلى العصر الحجري كما هدّد الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله.
ــ امتلاك المقاومة في لبنان وفلسطين الإمكانات الكبيرة على المستويين العسكري والأمني، بحيث باتت صواريخها تطال كل نقطة يتواجد فيها الاحتلال على أرض فلسطين المحتلة، والكفايات التقنية والبشرية على مستوى العدّة والعديد، والتشكيلات القتالية الكفوءة التي أثبتت قدرتها العالية على إفشال أهداف كل الإعتداءات الإسرائيلية وقلب المعادلات لصالح المقاومة.
ــ الحضور الميداني والإستعداد النفسي والمعنوي، والجهوزية العالية للمقاومة على كل جبهات المواجهة في لبنان وفلسطين، والدافع العقائدي والوطني الراسخ المؤمن بقضية "إزالة إسرائيل من الوجود" كعنوان ثابت تتمحور حوله ساحات المواجهة، ويشكّل الأرضية الجامعة لفصائل المقاومة.
ــ الإنقسام الداخلي غير المسبوق في المجتمع الصهيوني، والذي لم يأتِ بسبب تباينات سياسية بقدر ما جاء نتيجة لخلافات عميقة حول بناء التصوّرات والحلول التي تضمن بقاء "إسرائيل" في ظل المتغيّرات الجيوسياسية الحاصلة على مستوى محور المقاومة، وهو انقسام يضاف إلى نقاط التهديد الوجودي الذي يؤدي في حال استمراره إلى انهيار الكيان الصهيوني من الداخل، كاحتمال حقيقي.
يدرك مسؤولو العدو أن التهديدات التي كانت ترعب العرب وتدفعهم إلى الإرتجاف المصطنع وتقديم الهبات المجانية لها، لم تعد أسلوباً ناجعاً للإستثمار السياسي أو الأمني إزاء قوى المقاومة اللبنانية والفلسطينية، بل باتت تحدث انعكاساً سلبياً على الساحة الداخلية للمجتمع الصهيوني، ممّا يزيد في إضعاف الحصانة الوجودية للكيان المؤقت ويضاعف عناصر القوة لدى محور المقاومة، ويدرك هؤلاء أن تهديداتهم لا مجال لتحقّقها لخوفهم من أن أي حرب قد تحصل ستؤدي إلى انفجار المنطقة بأكملها، وهكذا يصبح محور المقاومة ضامناً استراتيجياً للأمن في المنطقة، بحيث استطاع تكبيل أيدي العدو وأذرعه، وحدّد خياراته ومدى حركته الميدانية سواء في فلسطين أم في لبنان، في حين أن المقاومين يملكون حرية التحرّك والفعل، دون أن يجرؤ العدو على إطلاق النار المباشر أو المبادرة إلى تجاوز الحدود، ولعلّ عجزه عن منع المواطنين اللبنانيين من افتتاح طرق كانت ممنوعة عليهم لعشرات السنين، أو إزالة خيمتين نصبتهما المقاومة بمحازاة الحدود اللبنانية مع فلسطين، إشارة بالغة على نجاح المقاومة في توفير عوامل الأمن والتحكّم بزمام المبادرة.
استطاعت المقاومة من خلال حرب تموز 2006 أن تثبت قواعد الإشتباك مع العدو أولاً بحيث تحمي لبنان وفق معادلة توزان الردع، ومن ثم على مدى 17 عاماً أن تنتقل إلى مربّع متقدّم لتؤكد النظرية التي أطلقها السيد نصر الله بأن "إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت"، وترسي دعائم معادلة "تفوق الردع"، بحيث تمنع العدو من استباحة البر والبحر والجو دون أن تلقى الردّ المناسب، سواء من خلال الصواريخ الدقيقة والاستراتيجية أو المسيّرات المباركة، مع احتفاظ المقاومة بجملة من ردود الثأر والإنتقام التي لم يئن أوانها المناسب بعد؛ إلا أن درع الحماية التي تؤمنه المقاومة للبنان لا ينحصر في الجانبين العسكري والأمني، بل يشمل أيضاً الجوانب الإجتماعية والإقتصادية والمعيشية، بما يكفل تحصين المجتمع اللبناني ورفع مستوى استعداداته لكسر الحصار الأمريكي – الدولي المستمر، وكما ثبّت انتصار تموز معادلة "حيفا وما بعد ما بعد حيفا"، جاءت معادلة "كاريش وما بعد ما بعد كاريش"، لتدخل لبنان في نادي الدول الغنية بثروة النفط.
لم يدر في خلد أي مسؤول أمريكي أو إسرائيلي أو دولي في أن المقاومة في لبنان قادرة على أن يكون لها الأثر المفصلي في منظومة الحماية البحرية، لا بل إن الإدارة الأمريكية كانت تراهن على ضعف القرار الرسمي اللبناني في ما يتعلّق بالترسيم البحري اعتماداً على قرارات سابقة لحكومة فؤاد السنيورة تمنح العدو هبات مجانية كبرى ومجالاً واسعاً لنهب الثروة النفطية للبنان، إلا أن قوة المقاومة في إرادتها وموقفها وسلاحها وإصرارها على نيل كامل الحقوق الوطنية والسيادية، منحت الجانب اللبناني أوراق قوة مكّنته من مواجهة القرار الأمريكي وكسره، وحوّلته من موقع المستجدي إلى موقع المطالب العنيد، وكانت المنطقة برمّتها على شفا خطوة من الإنفجار الكبير في حال أصرّ الأمريكي والإسرائيلي على التنكّر للحقوق اللبنانية، فأتت مسيّرات المقاومة الثلاثة لتؤكد جدّية القرار الذي اتخذته قيادة المقاومة بضرب المنشآت النفطية الإسرائيلية في حال باشرت باستخراج النفط من حقل قانا النفطي اللبناني، و"لا يوجد هدف إسرائيلي في البحر أو في البر لا تطاله صواريخ المقاومة الدقيقة" وفق تأكيد السيد نصر الله.
كانت المواجهة تجري على حد الهاوية، وأثبتت فيها المقاومة مرة أخرى أنها في موقع المنتصر الذي يدرك مواقع القوة التي تتيح لها فرض القرار، والقادر على تحويل التهديد إلى فرصة ليستفيد منها لبنان بشعبه وجيشه ومؤسساته، مع العلم بأن المسألة لم تكن محصورة في كاريش وقانا، "وإنما كل حقول النفط والغاز المنهوبة من قبل إسرائيل، في مياه فلسطين مقابل حقوق لبنان"، وبذلك استطاع لبنان أن يحصل على كامل حقوقه في التنقيب والحفر واستخراج ثروته النفطية مع استمرار ضمان الأمن الاستراتيجي الذي توفّره المقاومة، وبذلك لا تزال حرب تموز مستمرة بأوجه متعدّدة، وتمكّنت المقاومة فيها من تحقيق انتصارات إضافية ومتتالية في مجالات المواجهة المختلفة، وهذه المواجهة ستستمر حتى تأتي "نهاية الكيان الإسرائيلي القريبة جداً"... ويبقى الحديث عن محور الردع الذي شكلت حرب تموز بنتائجها الحجر الأساس والعامل الجوهري في تشكيل بنيته تقوية ركائزه، لتكتمل رباعية الأبعاد في منظومة الاقتدار.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024