آراء وتحليلات
كفاءة الدفاعات الروسية تعقّد المهمة الأوكرانية
د. علي دربج - باحث وأستاذ جامعي
بخلاف الحملة الدعائية الضخمة التي واكبت الهجوم الأوكراني المعاكس على القوات الروسية في حزيران/ يونيو الماضي، والذي لا يزال يترنح، جاءت النتائج محبطة ومخيبة لآمال داعمي كييف الغربيين خصوصًا واشنطن وحلفاءها الأوروبيين، الذين كانوا يتوقعون من الجيش الأوكراني إيقاعًا مغايرًا ومكتسبات سريعة ومرضية. حتى أن الشعور بالخيبة، سرى أيضًا على مواطني هذا البلد في الداخل وأماكن الشتات.
فالدفاعات الروسية القوية، دفعت الاستخبارات الأمريكية الى التقدير أن الهجوم المضاد الأوكراني سيفشل في الوصول إلى مدينة ميليتوبول الرئيسية في جنوب شرق البلاد (والكلام هنا يعود لقيادات امريكية مطلعة على هذه التوقعات السرية). وبالتالي فإن هذا التقييم إذا ثبت أنه صحيح، سيعني أن كييف لن تحقق هدفها الرئيسي المتمثل في قطع الجسر البري الروسي إلى شبه جزيرة القرم هذا العام.
إلى ماذا استند تقييم الاستخبارات الأمريكية؟
يستند هذا التقييم القاتم بالنسبة للغرب الأطلسي، إلى الاعتراف بالكفاءة الروسية في الدفاع عن الأراضي الواقعة تحت سيطرة موسكو، والتي تعززها حقول الألغام والخنادق. إذ إن القوات الأوكرانية ــ بحسب المسؤولين الأمريكيين ــ المتجهة نحو مدينة ميليتوبول من بلدة روبوتين، على بعد أكثر من 50 ميلاً، ستبقى على بعد عدة أميال خارج المدينة.
فميليتوبول، تعد منطقة استراتيجية بالغة الأهمية للهجوم المضاد لأوكرانيا لأنها تعتبر البوابة إلى شبه جزيرة القرم، وهي تقع عند تقاطع طريقين سريعين مهمين، وخط سكة حديد يسمح لروسيا بنقل العسكريين والمعدات من شبه الجزيرة إلى الأراضي المحتلة الأخرى في جنوب أوكرانيا.
من هنا، يتماشى التقييم الاستخباراتي الجديد مع توقعات أمريكية سرية صدرت في شباط الماضي تشير إلى أن النقص في المعدات، وقوة الدفاع، قد يعنيان أن الهجوم المضاد سيعجز عن تحقيق هدف أوكرانيا بقطع الجسر البري إلى شبه جزيرة القرم بحلول آب/ أغسطس وهو ما حدث فعلًا.
لذلك، من المرجح أن يدفع هذا الفشل الى تبادل الاتهامات والمسؤولية داخل كييف والعواصم الغربية حول سبب تعثر الهجوم المضاد الذي كلف عشرات المليارات من الدولارات من الأسلحة والمعدات العسكرية الغربية، ولم يحقق أهدافه.
ما هو دور الدفاعات الروسية في كسر الهجوم الأوكراني؟
في الأسبوع الأول من القتال، تكبدت أوكرانيا خسائر فادحة ضد الدفاعات الروسية المعدة جيدًا على الرغم من امتلاكها مجموعة من المعدات الغربية المكتسبة حديثًا، بما في ذلك مركبات من طراز "برادلي" القتالية الأمريكية، ودبابات "ليوبارد 2" الألمانية الصنع وعربات مدرعة متخصصة لإزالة الألغام.
الأكثر أهمية هنا، هو إقرار مسؤولين أمريكيين وغربيين أن المناورات الحربية المشتركة التي أجرتها الجيوش الأمريكية والبريطانية والأوكرانية، توقعت مثل هذه الخسائر لكنها تصورت أن تتقبّلها كييف باعتبارها ثمنًا طبيعيًا لاختراق الخط الدفاعي الرئيسي لروسيا.
غير أن أوكرانيا اختارت لاحقًا الحد من الخسائر في ساحة المعركة، والتحوّل إلى تكتيك الاعتماد على وحدات أصغر للمضي قدمًا عبر مناطق مختلفة من الجبهة. ومع ذلك لم تؤدِّ هذه الاستراتيجية إلا الى مكاسب متواضعة جدًا في جيوب مختلفة خلال هذا الصيف.
أكثر من ذلك، زجّت كييف مؤخرًا بالمزيد من الاحتياطيات للجبهة على مستوى العناصر الأكثر كفاءة، بما في ذلك وحدات سترايكر وتشالنجر، لكنها لم تخترق بعد الخط الدفاعي الرئيسي لروسيا.
وتعقيبًا على ذلك قال "روب لي" المحلل العسكري في معهد أبحاث السياسة الخارجية، إن الطريق إلى ميليتوبول يمثل تحديًا كبيرًا، وحتى استعادة مدن أقرب مثل "توكماك" ستكون صعبة. وأضاف "لي": "لروسيا ثلاثة خطوط دفاعية رئيسية هناك، ثم مدن محصنة بعد ذلك. إنه ليس مجرد سؤال حول ما إذا كان بإمكان أوكرانيا خرق واحد أو اثنين منها، ولكن هل يمكنهم اختراق الثلاثة، ولديهم ما يكفي من القوات المتاحة بعد الاستنزاف لتحقيق شيء أكثر أهمية مثل أخذ "توكماك" أو شيء ما بعد ذلك؟"
وفي اعتراف لافت بتدخل واشنطن المباشر بالمعارك، قال مسؤولون أمريكيون، إن البنتاغون أوصى عدة مرات بأن تركز أوكرانيا كتلة كبيرة من القوات على نقطة اختراق واحدة. غير أن القادة الأوكران فضّلوا خيارا آخر مختلفًا.
ما تأثير انسداد الأفق الأوكراني على المساعدات العسكرية الأمريكية؟
علميًا، إن النظرة القاتمة التي اطّلع عليها بعض الجمهوريين والديمقراطيين في "الكابيتول هيل"، أدت بالفعل إلى دخول لعبة تبادل الاتهامات داخل الاجتماعات المغلقة. فبينما يرفض بعض الجمهوريين الآن طلب الرئيس جو بايدن للحصول على 20.6 مليار دولار إضافية لمساعدة أوكرانيا في ضوء النتائج المتواضعة للهجوم، انتقد الجمهوريون الآخرون والديمقراطيون المتشددون بدرجة أقل، الإدارة لعدم إرسال أسلحة أكثر قوة إلى أوكرانيا في وقت قريب.
بالمقابل يرفض المسؤولون الأمريكيون الانتقادات القائلة إن الطائرات المقاتلة من طراز F-16 أو أنظمة الصواريخ بعيدة المدى مثل ATACMS، كانت ستخلق نتيجة مختلفة. وتبعًا لذلك، قال مسؤول كبير في الإدارة الامريكية: "لا تزال المشكلة هي خرق الخط الدفاعي الرئيسي لروسيا".
ليس هذا فحسب، ففي مقابلة مع صحيفة "واشنطن بوست" هذا الأسبوع، قال الجنرال "مارك أ. ميلي" رئيس هيئة الأركان المشتركة إن الولايات المتحدة كانت واضحة بشأن المهمة الصعبة التي تواجه أوكرانيا.
وأضاف: "لقد قلت قبل شهرين إن هذا الهجوم سيكون طويلاً، وسيكون دمويًا وبطيئًا، وهذا بالضبط ما هو عليه: طويل، دموي وبطيء، وهي معركة صعبة للغاية".
بموازاة ذلك، أقر وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا بالوتيرة البطيئة للهجوم المضاد الأوكراني، لكنه شدد على أن كييف لن تتوقف عن القتال حتى تتم استعادة كل أراضيها، موضحًا في حديث لوكالة الأنباء الفرنسية "لا يهمنا كم من الوقت سيستغرق الأمر".
وقد استخدم كوليبا لهجة لا تخلو من السخرية شجع فيها منتقدي الهجوم على "الذهاب والانضمام إلى الفيلق الأجنبي إذا كانوا يريدون نتائج أسرع"، مشيرًا إلى أنه "من السهل القول إنك تريد أن يكون كل شيء أسرع عندما لا تكون هناك".
علاوة على ذلك، يؤكد المسؤولون الأوكرانيون في جلساتهم الخاصة أن التوقيت يعتمد على مدى سرعة اختراق القوات لحقول الألغام، وهي عملية صعبة أدت إلى إجهاد موارد إزالة الألغام للجيش عبر مساحة واسعة من الأراضي.
بدورهم يعتبر المحللون الغربيون أن التحديات التي واجهتها أوكرانيا متعددة الأوجه لكن ما يجدر التوقف عنده أن الجميع تقريبًا يتفقون على أن روسيا تجاوزت التوقعات عندما تعلق الأمر بكفاءتها في الدفاع عن الأراضي المحتلة. ولهذه الغاية كشف المحلل العسكري "روب لي" أن "العامل الأكثر حتمية لكيفية وصول هذا الهجوم حتى الآن هو جودة الدفاعات الروسية"، مشيرًا إلى استخدام روسيا للخنادق والألغام والطيران، وتابع "كان لديهم الكثير من الوقت وقد أعدوا جيدًا وجعلوا من الصعب جدًا على أوكرانيا التقدم".
هل لا زال الوقت لصالح اوكرانيا؟
على مدى شهور، ضخ الأوكرانيون موارد هائلة في باخموت بما في ذلك الجنود والذخيرة والوقت، لكنهم فقدوا السيطرة على المدينة ولم يحققوا سوى مكاسب متواضعة في الاستيلاء على الأراضي المحيطة بها. وبينما يختلف القتال المتقارب في باخموت عن مشكلة الألغام في الجنوب، عبّر البعض في إدارة بايدن عن قلقهم من أن الإفراط في القتال في الشرق قد يؤدي إلى تآكل قوة الهجوم المضاد في الجنوب.
من جهته رأى أحد "المسؤولين الدفاعيين" بحسب "واشنطن بوست" أنه من المحتمل أن تتمكن أوكرانيا من تجاوز الأعراف التاريخية ومواصلة الهجوم المضاد خلال فصل الشتاء، عندما يصبح كل شيء بما في ذلك الحفاظ على دفء الجنود وتزويدهم بالطعام والذخيرة أكثر صعوبة. غير أن هذا سيعتمد على عدة عوامل مهمة، مثل مقدار الراحة التي تحتاجها القوات بعد موسم قتال صعب فضلًا عن كمية المعدات المتخصصة والملابس الخاصة بالطقس البارد المتوفرة لديهم.
في المحصّلة، وبعيدًا عن الأخبار والتحليلات النظرية في أغلبها، قد لا نجد أفضل من اللجوء إلى المصادر الأمريكية المتابعة عن كثب للعمليات لمعرفة حقيقة اتجاهات المعركة في الفترة المقبلة، ونعني بذلك المسؤول الدفاعي الامريكي اعلاه الذي قال حرفيا: "خلال العمليات العسكرية الشتوية فإن اداء موسكو يتفوق، فالروس معروفون بقدرتهم على القتال في الطقس البارد"، دائمًا بحسب "واشنطن بوست".
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024