آراء وتحليلات
انتصار تموز.. كل الدروس المنسية
أحمد فؤاد
أيام الحروب في حياة الأمم ليست كغيرها، ولا تمر كسواها بسرعة، فالدم وحده قادر على إبقاء الحقيقة حية، تصيح لتروي كيف عبرنا هذه الأيام، وكم كلفتنا كل خطوة وكل لحظة وكل نفس. الدماء الزكية التي سالت على أرض جنوب لبنان قبل 17 عامًا، في أروع وأمجد أيام الأمة العربية المعاصرة، وحدها استطاعت أن تكون الجدار الصلد والحجر الذي نستند إليه، وكل ما عداها من أيام أو تواريخ مجرد صيحات عابرة، مهما بدا أنها خاطفة أو براقة ولامعة.
الأمم تعود إلى أيام الحروب لتقرأ من جديد دروسها، دروس دفعت فيها الأرواح والدماء والعرق والألم، تعود لتتأكد أنها تقف في مكانها الصحيح، وأن خطواتها القادمة بالتالي ستكون إلى الوجهة المطلوبة، والصحيحة كذلك، ودروس العرب المنسية في حرب تموز كثيرة، رغم أنها الأكثر إلحاحًا في واقع اليوم البائس شديد العجز، وما جرى في ذلك الصيف البعيد يظل على الدوام تاريخًا فاصلًا ويومًا مجيدًا بين عالمين وزمنين مختلفين، تاريخ أكمل نصر عربي في العصر الحديث.
نصر تموز وحده قادر على رسم ما جرى ويجري وسيجري في مستقبل الأيام في العالم العربي كله. هو نقطة البداية وضوء الفجر الصادق في وجه الظلمات المركبة التي تلفنا وتكاد تطمس رؤيتنا. تموز صيحة الضمير المقاوم وبركان الغضب الرافض، الموقف الأسمى والترجمة الأمينة للإيمان والإرادة والعناد، اليوم الذي بدأت فيه صيحة التحرير من البحر إلى النهر في الانتقال من القلوب إلى العقول، من مدار الحلم البعيد إلى الواقع الممكن الذي يمكن تصوره ولمسه.
يمكننا بكل ثقة أن نقول، مطمئنين إلى صحة القول ودقته، إن الزمن الحالي يحمل عنوانًا هو الردع، حزب الله يردع الكيان الصهيوني العدواني، وأكثر من ذلك يخيف قياداته ويرعبه، ولأن حركة التاريخ لا تأتي من فراغ ولا تمنح أحدًا فرصة التقدم ووراءه الفراغ والثغرات، فإن ما تحقق كان نتيجة منطقية لعملية تراكم طويلة وصعبة ومعقدة ومكلفة، استطاعت فيها المقاومة الإسلامية أن تثابر وأن ترفع وأن تثبت قدراتها وإمكانياتها وقوتها، طوال 17 عامًا، كانت الحركة العامة هي حركة إلى الأمام.
أضاء سماحة السيد حسن نصر الله، في خطابه لمناسبة النصر الإلهي في 14 آب/ أغسطس، على هذه اللحظة تحديدًا، لحظة نصر 2006 التي حفرت في وعينا طريقًا للأمل وحلمًا بالخلاص من الكابوس الصهيوني الجاثم على صدر كل عربي حر، بالدم والنار، أن الانتصار ممكن وموجود ومتحقق، وأن لا الكيان ولا حلفاؤه وداعموه قادرون على خنق حاضرنا ومستقبلنا، وأن ما تحقق في 2006 كان بداية لما بعده، وتأسيسًا لزمن جديد، وبالكامل.
اليوم بالذات اختار سماحة السيد، أن يرد على تهديدات العدو الصهيوني، بأنهم قادرون على إعادة لبنان إلى العصر الحجري في حال نشوب حرب قادمة، قال السيد "إذا ذهبتم إلى الحرب مع لبنان أنتم ستعودون إلى العصر الحجري"، كلمات سيد الوعد الصادق، الأمين.
قال السيد، في نبرة هادئة، تعودنا عليها خلال حرب الـ 33 يومًا مع الكيان، تمزق ستائر الوهم وتثبت الصابرين وجمهور المقاومة في لبنان والعالم العربي، إنه في حال الحرب فإن "على قادة العدو أن يعرفوا أنه هنا في هذا الميدان وهذه الساحة أنهم يلعبوا لعبة وجود وفناء وليس لعبة نقاط"، بلا حماسيات طنانة ولا عبارات فارغة جوفاء، بلا موسيقى ولا أناشيد، لكن بإيمان جبار، يرسم السيد آخر السطور في قصة هذا المسخ القائم على أرض فلسطين العربية.
يستكمل الأمين العام سرد دروسنا من انتصار تموز: "منذ عام 2006 بدأ التراجع والضعف والوهن يسري في الجيش الصهيوني، الذي يعاني من ضعف الروح القتالية وانعدام الثقة بين العناصر والقادة ومع المستوى السياسي وضعف الاقبال على الوحدات القتالية وغياب الانجازات"، هذا باختصار ما يسمى بالرعب الذي يمثله في هذه اللحظة حزب الله، عن الاستمرار بوتيرة الاستعداد القتالي ذاتها لسبعة عشر عامًا متتالية، بناء القدرات وضخ الدماء الجديدة إلى شرايين المقاومة، مفاجآت مذهلة لم تتوقف، في الجو والبر والبحر، إفشال كل محاولات العدو بإشعال الفتنة الداخلية، كما تعود ويحب، عن صناعة وعي ويقين ثابت بات راسخًا لدى قيادة العدو أنها أمام جبهة مخيفة، تعرف أنها ستخسر كثيرًا إذا ما قررت فتحها، لكنها لا تعرف بالضبط ما ستواجهه فيها.
الأهم في خطاب السيد المفصلي، هو الإشارة النبيلة إلى ما قام به رجال حزب الله في تموز، وعودته للتأكيد في كل كلمة مرتبطة بذكرى تموز أننا أمام "نصر إلهي"، مهما كانت العوائق وفارق الإمكانات والقدرات، ومهما وصلت التحالفات والظروف العالمية والإقليمية، فإنها لن تكون أصعب وأمنع منها عن العام 2006، وقتذاك شن الصهاينة حربهم بتحالف وثيق مع الأميركي وتفاهمات كاملة مع الأنظمة العربية، علنًا وأمام الكاميرات، ولم يكن طرف في العالم يستطيع أن يرفع رأسه ويقول لا.
اليوم اختلف الوضع كليًا، والمشهد العالمي كله قد دخلت فيه أطراف تعادي الأميركي وترغب في فك الطوق الذي يضعه على رقبة العالم، روسيا والصين ودول البريكس، وحتى قارة أفريقيا المنسية قد نهضت للمواجهة، والجميع يعلم أنه في معركة وجود أمام الأميركي، وفي هذا الوضع الجديد فإن الكيان الذي كان يستأثر بالعناية والدعم والإسناد يقف وحيدًا معزولًا، يخسر مع خسارة أميركا، وربما قبلها.
إعلام العدو، ذاته وليس إعلام المقاومة، قال عقب الخطاب إنه يحمل قدرًا كبيرًا من الثقة بالنفس في الظرف الحالي، ويؤشر لتطورات خطيرة في القدرات العسكرية لحزب الله، وهو خير شاهد على ما ينتظر هذا الكيان المهتز المرتعش، الذي بات في أسوأ وأضعف حالاته، سياسيًا وعسكريًا واجتماعيًا، وهو قد بدأ في التشقق قبل مواجهة حتمية، وقد تكون قريبة جدًا.
..
اليوم بالذات نحن –كعرب- أحوج ما نكون إلى استعادة درس تموز المباشر، وهو أن من يرغب في الحياة سيحيا، مهما كانت التكلفة ومهما بلغ مدى المواجهة وأعباؤها. اليوم نحن نعيش في حصار أميركي اقتصادي وعقوبات مالية، تحول الحياة إلى جحيم، وفوقها ضرائب الحرب الأميركية الروسية في أوكرانيا، شئنا أم أبينا سندفع جزءًا من التكلفة الهائلة المرتبطة بها، ومن الأكرم أن ندفعها ونحن في الخندق السليم.
منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة "الفاو" كشفت عن تعرض 30% من سكان المنطقة العربية للتهديد بالجوع بسبب التأثر بالنزاع الروسي الأوكراني، ونقص سلاسل الإمداد الغذائي، مع فشل الحكومات في مواجهة الأزمة، وتحمل المواطن العادي وحده نتائج فشل الإدارة وبؤس السياسات الحكومية، وبالطبع مع استمرار الحرب الأميركية الاقتصادية فإن هذه النسبة مرشحة للزيادة، والحل المنطقي سبق أن طرحه السيد، في إطار حديثه عن مواجهة الحرب الأميركية الشاملة: "إذا دفعتم لبنان إلى الفوضى، فعليكم أن تنتظروا الفوضى في كل المنطقة، وفي مقدمتها ربيبتكم إسرائيل".
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024