آراء وتحليلات
أيار.. نظرية الانتصار
أحمد فؤاد
منذ ثلاثة وعشرين عامًا، وفي مثل هذه الأيام، كان حزب الله يقدم للبنان وللعرب وللعالم إجابة من غير المقررات التي قرأناها وتلاها علينا إعلام كل نظام عربي، ومن خارج قواعد المألوف والممكن، ومخاصمة لكل معادلات القوة المادية وحسابات السلاح وإمكانياته، بعيدًا جدًا عن قدرات التصور والعمل، والأكثر عجبًا إن كل هذا الفعل الملهم العظيم جرى في ظرف سقوط شامل للمنطقة، وبحر لجي يغشاه اليأس والإحباط والسواد التام الكامل.
في 1982، وحين تقدم حزب الله للعمل المقاوم ضد كيان العدو، لم يكن الظرف الداخلي أو الإقليمي وحتى العالمي يمكن له أن يبلغ الأسوأ، الدولة العربية الأكبر سكانًا قد سقطت في فخ التطبيع وتقدمت إلى وعد الرخاء الأميركي، ثم جاءت مغامرة صدام الجنونية لتشعل حرب الخليج الأولى، مستنزفة كل ما يمكن أن تستنزفه من موارد وجهد ودماء، وأعقبتها غارته التالية على الكويت، وبعدها جاءت عاصفة الصحراء وتحرير الكويت، ليفقد العالم العربي العراق تمامًا بالحصار الغاشم على شعبه، وتسهم في الإطاحة بالبقية الباقية من التضامن الشكلي بين الدول العربية، وبين كل هذه الحوادث كانت الصراعات الجانبية بين النظم ورجال الحكم العرب، ومحاولات الهرولة نحو الجار الصهيوني أو الركوع على الأعتاب الأميركية سباقًا بين من يخلع أكثر.
في هذا الوقت العصيب تجلت عبقرية وراهنية المقاومة وخيارها ونهجها، إنها في لحظة الألم والمرارة والعجز قدمت للعرب النموذج الفريد في العمل، بثلاث ومضات أساسية، هي: الإيمان والتراكم والثقة، بالإيمان أجابت المقاومة عن السؤال الأول، عن طبيعة صراعنا مع العدو، صراع خام للبقاء، أن نكون أو لا نكون، وبعكس البعض فإن هذه الجملة كانت حاضرة في كل وقت وأمام أي تحدٍ، ليست إجابة في المواجهات المباشرة والميادين وعبر البارود والنار، لكنها منهجية عمل إيماني دائب ومستمر، لا تخضع للمفاوضة ولا تقبل الحلول الوسط ولا تعرف من الصراع كله إلا هدفًا من اثنين نصر أو شهادة.
ومع الإيمان كان التراكم هو المفتاح الثاني للتغيير الأكبر والأخطر الذي طرأ على المنطقة العربية، فالحزب لم يركن إلى انتصاره المدوي في أيار من العام 2000، ورغم استمرار –وتسارع- وتيرة التراجع في الإقليم، وإعلان بوش الابن حملة جديدة على العالم الإسلامي بخطابه الأشهر "من ليس معنا فهو ضدنا" في 2001، والذعر الذي سيطر على الحكام العرب وتأييدهم الفوري، وبعدها رفع الراية البيضاء بشكل كامل أمام مخطط أميركي جديد للمنطقة بعنوان مبادرة السلام العربية/السعودية في 2002، ثم سقوط العاصمة بغداد درة المدن وعنوان المجد العربي في 2003، كانت الظروف تتعقد والمفاصل العربية تتيبس والأيادي ترتعش والقلوب وجلة من القادم، باختصار لم يكن ثمة قوة على الأرض قادرة على مضاهاة الولايات المتحدة نظريًا، أو تمتلك قدرة الوقوف في وجهها عمليًا.
حتى في هذا المناخ، ويوم كانت الولايات المتحدة الأميركية قوة عظمى وحيدة لا شريك لها، كلية القدرة والجبروت والهيمنة، ظلت المقاومة على العهد رأسًا لحربة الحق والمستقبل والحلم، واستطاعت أن تسجل أعظم نصر عربي على كيان العدو والولايات المتحدة وأنظمة الذل العربي من ورائه في تموز المجيد من عام 2006، وقدمت بصمودها المثال الحي على حدود قدرة الإنسان العربي حين يؤمن ويقرر ويصمم.
أما عنوان الثقة، فقد أنبتته المقاومة من عدم ومن ظلام، كانت ثقة تتسع بامتداد الوطن العربي كله، ثقة في القرار وثقة في الرجال وثقة في الأمين سماحة السيد حسن نصر الله، ثقة أنضجتها التجارب وصقلتها الأيام والمعارك، يكفي إشارة وحيدة خلال حرب تموز 2006، وعد الأمين "لا أحد في هذا الكون يستطيع رد الأسيرين بغير تفاوض غير مباشر وتبادل"، وهو ما تحقق في نهاية المطاف، عبر معركة كبرى استمرت 33 يومًا، جرب فيها العدو كل شيء لانتزاع أي شيء، وكالعادة أمام صمود المقاومة لم ينجح، وعاد أولمرت خائبًا مهزومًا، بلا خفي حنين حتى.
كانت المقاومة –ولا تزال- هي إجابة أمة حية نابضة ترفض الفناء والاستسلام، قادرة على هزيمة الهزيمة واليأس، في أيار 2000 بالذات، ومع عدم امتلاكنا لسوابق انتصار على العدو الصهيوني وسلاحه، والنصر الواضح أبعد مما يتمناه أي عقل أو منطق، كان رجال الله يخلقون الحقائق على الأرض، ويرسمون صورة مغايرة لمعطيات فارق القوة والأوضاع والإمكانيات، ويستنبتون من أتون النضال المستحيل مجسدًا، وكانوا يكسرون، في بهاء وعزة، كل حدود ظنها الجميع لقدرة السلاح الأميركي على الإرهاب والتركيع والإذلال.
ظهرت أخلاقيات وخطوط وقواعد نظرية المقاومة، واضحة جلية قاطعة، وسار فقه هذا المنهج من بداياته وإلى اليوم على أساس إنه إذا كان ما هو إنجاز مطلوبًا فإن الأمل بقدرة تحقيق الإنجاز بدورها مشروعة، مهما بلغت تضحياته ووصلت تكاليفها ومداها، وهكذا "يجب" أن نفهم درس أيار العظيم، بالإيمان والتراكم والثقة يستطيع كل عربي، حتى على المستوى الشخصي جدًا والمجرد، أن يتحول من مفعول به إلى فاعل، وأن يملك القوة اللازمة والضرورية للتأثير في مجريات حياته وما يحدث في محيطه، وأن يحقق لنفسه وغيره ما يريد.
ما قدمه لنا انتصار أيار هو الحق في أن نحلم، أنه وهبنا القدرة على رؤية الصراع من منظور آخر، لا يخضع لخنق الحصار الغاشم ولا تنقصه الأسباب المادية، وإذا كانت كفة كيان العدو ثقيلة بواشنطن وبالخونة من بني جلدتنا، فإن كفة المؤمن بقدرة الله الجبار أقوى وأرجح، ودماء الشهداء الممجدين لا تزال قادرة على إرشاد غيرهم إلى الطريق الصحيح والمنهج السليم، وكتابة الجملة التي نحتاجها بالفعل في ظروفنا الحالية، إن "النصر ممكن، والنصر قادم، والنصر أكيد".
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024