معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

ماكرون ونهاية الهيمنة الأميركية
20/04/2023

ماكرون ونهاية الهيمنة الأميركية

 عبير بسّام

ما يجمع الولايات المتحدة وأوروبا تاريخ طويل من الاستعمار والاستغلال لموارد العالم وخيراته. فأمريكا تمثل ذروة تاريخ أوروبا الاستعماري. وما يجمع بينهما أيضاً هو هذا الشعور العجائبي بالامتنان لوقوف أميركا إلى جانب نصف أوروبا في الحرب العالمية الأولى ضد محور القيصرية الروسية والسلطنة العثمانية والقيصرية الألمانية، ومن ثم إنقاذ أمريكا لأوروبا في الحرب العالمية الثانية ومساعدتها على التحرر من ألمانيا النازية. وبالتالي فإن ما نسمعه من تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول ضرورة التخلص من الهيمنة الأميركية منذ فترة من الزمن، والذي يتزايد في كل يوم مع سوء الأوضاع الاقتصادية التي تشهدها فرنسا وارتفاع وتيرة المظاهرات فيها يبدو وكأنه تغريد خارج السرب، كما يبدو وكأن ديغول قد عاد من كتب التاريخ.

هناك أجزاء تتعلق بأسباب الخضوع الأوروبي والتسليم الكامل بكل ما تفرضه الولايات المتحدة، وهناك ما هو غير ظاهر للسطح حتى اليوم. ولكن علينا في جميع الأحوال، أن نفهم أن الأمر له علاقة وطيدة بالنظام الرأسمالي المفترس الذي يحكم أوروبا والغرب بشكل قطعي، وأهم ما في ذلك هو الشركات الاحتكارية العابرة للقارات، سواء كانت أوروبية أم أميركية المنشأ، والتي تقدم أميركا لها التسهيلات للعمل على أراضيها، خاصة بعد شح الغاز المولد للكهرباء وارتفاع تكاليف العمل في أوروبا. أي أن رقبة أوروبا باتت مسجاة على المقصلة الأميركية، وأي خطأ أو خروج عما هو متفق عليه سيضع أوروبا في محنة صعبة.

ما يريده الأميركيون من الأوروبيين في المرحلة الحالية ليس معقداً في الحقيقة، إنهم يريدون الطاعة التامة، فالمطلوب من أوروبا في المرحلة الحالية التخلي عن الحديث عن عودة الاتفاق النووي مع إيران وإحكام الحصار عليها، ودعم أية جهود من أجل هزيمة روسيا ولربما إعادة تقسيمها، وهو ما سيؤدي بالتأكيد إلى إحكام القبضة الأميركية من خلال "تجمع" أوكوس على رقبة الصين. وتحقيق هذه الأهداف بنظر الولايات المتحدة سيعيدها للتحكم بالعالم كقطب اوحد.

هذا ما تريده الولايات المتحدة، ولذلك قامت بتفجير خط السيل الشمالي، اذ كانت إدارة بايدن قد صرحت منذ شباط/ فبراير 2022 بوجوب التخلص من خط الغاز الروسي. لم يأت ذلك من عبث، بل كان وراء ذلك النية بتطويع الأوروبيين وخاصة الدول الأهم في الاتحاد الأوروبي، ألا وهما فرنسا وألمانيا، من أجل إحكام الحصار على روسيا. بعد بدء الحرب على روسيا في أوكرانيا تثاقلت الخطوات الأوروبية نحو تنفيذ المطالب الأميركية، فكان لا بد من تفجير الخط وإيقافه والدفع نحو الاعتماد على أمريكا في تأمين مصادر الطاقة والحماية العسكرية والأمنية ضد أي هجوم روسي مفترض. وتعتمد الخطة الأميركية في إضعاف أوروبا اقتصادياً عبر تحويل اعتمادها الكلي على الصناعات الأميركية وخاصة ما يتعلق منها بالصناعات العسكرية والتقنية الحديثة.

لهذه الأسباب تصاعدت حدة تصريحات ماكرون بوجوب اعتماد القارة الأوروبية على حماية نفسها. وهذا ما كرره ماكرون خلال زيارته لهولندا منذ أيام، وما تحدث عنه خلال رحلته إلى الصين، التي اصطحب فيها معه رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، حيث أدلى ماكرون بتصريحات عالية النبرة بسبب خيبات الأمل التي تلقاها من الولايات المتحدة، والتي جعلت منه رئيساً غير قادر على تلبية حاجات الفرنسيين. فجاءت زيارة الصين كمخرج نحو التنمية الاقتصادية، ومحاولة التعويض عن الخسائر التي منيت بها من خلال عمل  أوروبي مشترك، خاصة وأن الواقع الاقتصادي الأوروبي في المرحلة الحالية يمر بفترة صعبة، وحتى أن الدول الأوروبية المنتجة للغاز، مثل هولندا والدول الإسكندنافية، باتت تفضل أن تحتفظ بمنتجات ثرواتها الباطنية أو أن تحد من تصديرها لسد حاجة باقي الدول الأوروبية حتى لا تقع في المأزق الذي وقعت فيه كل من ألمانيا وفرنسا.

زيارة الصين بمرافقة رئيسة المفوضية الأوروبية تتمحور بالنسبة لفرنسا حول سببين رئيسيين: الأول، هو الطلب من الصين التدخل من أجل وقف الحرب في أوكرانيا، فأوروبا تعيش حالة من القلق الأمني من امتداد الحرب خارج اوكرانيا. وهذا ما حمل ماكرون على الكلام أنه على أوروبا أن تكون قادرة على حماية نفسها وبناء قدرتها المستقلة على حماية نفسها خلال زيارة هولندا. والمستغرب، هو الصمت الأوروبي عن تصريحات ماكرون المتوافقة مع تصريحات هنغاريا، والتي يقلل من شأنها الأميركيون. ويبدو أن معظم دول القارة العجوز تتمنع عن البوح بمكنوناتها كما فعل كل من ماكرون ودير فون لاين المتوافقين حول وجوب وقف الحرب في أوكرانيا وإن كان متبايناً مع الموقف الألماني الملحق بالموقف الأميركي.

يصر ماكرون على إمكانية أن تكون أوروبا قطباً ثالثاً بدلاً من أن تكون قطباً ملحقاً بالصين أو بأميركا. وهذا الكلام كلام خطير يذكرنا بمجالس النواب الأوروبية إبان حكم الملكية المطلق، حيث قسم البرلمان الى ثلاث فئات، وبغض النظر عن عدد ممثلي كل فئة فإن التصويت يتم بحسب توافق الفئات. الأولى هي فئة اللوردات والثانية فئة رجال الدين والثالثة فئة الشعب، ولطالما تم التصويت لمصلحة الملكية والفئتين الأولى والثانية على حساب الفئة الثالثة. ولا ننسى أن لفرنسا الاستعمارية مصالح في المحيط الهادئ إذ ما تزال تسيطر على جزيرتين في المنطقة هما سلسلة أرخبيل بولينيزيا وجزيرة كالدونيا الجديدة. ويتمركز هناك 5000 جندي فرنسي، وكان من المفترض أن تعمل الغواصات النووية التي ستباع إلى فرنسا في المحيط الهادئ ومقابل هذه الجزر، وحين قررت الولايات المتحدة بيعها لأستراليا شعرت فرنسا بمحاولات إقصائها عن التواجد في المحيط الهادئ وبالتالي التقويض من سيادتها على هذه الجزر وإضعافها عسكرياً وأمنياً.

والسبب الثاني، هو تدعيم التعاون الاقتصادي ما بين البلدين. ولذلك أكد ماكرون أنه لا يمكن لأوروبا أن تضحي بالشراكة الأوروبية- الصينية كما ضحت بالشراكة الأوروبية- الروسية. وهذا الكلام هو مربط الفرس! فأوروبا خسرت قوَّتَها وقُوتَها عندما ضحت بروسيا، كما أنها تعد من أهم مستهلكي البضائع الصينية وببذخ. كما يمكن لدول مثل هولندا والدول الإسكندنافية أن تكون مصدراً مهماً في بيع الغاز للصين، مع أنه لن يكون بأسعار منافسة. وأما ما يمكن لدولة مثل فرنسا تقديمه، عدا التقنيات الهامة في الصناعات الثقيلة، مثل صناعة السيارات والطائرات وحتى الصناعات العسكرية، فهناك الصناعات الطبية والتقانية، اذ تعد فرنسا من الدول الرائدة عالمياً في الصناعات الطبية. وبحسب مجلة المستشفى العربي، تعتبر فرنسا الرابعة عالمياً في انتاج المواد الصيدلانية، وتمتلك أفضل معدلات لعلاج السرطانات في العالم، كما أنها تحتل المرتبة الخامسة في مجال تسجيل براءات الاختراع الطبية في العالم، اذ تسجل 3750 براءة اختراع في المجال الطبي سنوياً، عدا عن قدرة عالية في استخدام الصحة الإلكترونية.

وبحسب "المركز الديمقراطي العربي للدراسات الإستراتيجية، الاقتصادية والسياسية"، فإن فرنسا توفر عبر قنصلياتها خدمات التواصل وتشجع على العمل بها، كما أنها ابتدأت بإعطاء المنح للراغبين بالتعرف على أحدث ما توصلت إليه تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الرقمية وتعليم الراغبين بفتح الأعمال عبر الإنترنت، والذي يتطلب كفاءة مهنية عالية وفي معظم الأحيان شهادات جامعية. ولفرنسا خبرة في التعامل في هذا المجال ليس في شمال الكرة الأرضية بل في جنوبها أيضاً. وبحسب موقع السفارة الفرنسية في الجزائر، كانت السنة 2014 الثالثة على التوالي، التي تسجل فيها شركات التكنولوجيا في فرنسا أعلى نسبة حضور في ترتيب Deloitte Technology Fast، حيث حضرت 500 شركة فرنسية. قُيم ترتيب الشركات عالمياً من خلال نسبة الأرباح الأعلى عالمياً والتي حققتها مبيعاتها في أوروبا والشرق الأوسط وافريقيا. واحتلت مؤسسة كريتيو لصناعة الحواسيب المرتبة الأولى في العام 2012، كما تتواجد شركة "تالنت سوفت" في مئة دولة في العالم.

في العام 2013، تضمن البرنامج 86 مؤسسة فرنسية مقابل 71 من بريطانيا و52 من السويد و27 من ألمانيا و17 من إيرلندا. والجدير ذكره أن شركة "إيماجيس" المتخصصة في الصناعة السينمائية الرقمية احتلت المرتبة الأولى من حيث تحقيق الأرباح لخمس سنوات متتالية. وقيس نجاح "إيماجيس" من خلال نسبة الأرباح وعدد الموزعين والمستهلكين لنتاجها. فهل من الممكن تخيل عوائد "إيماجيس" على اقتصاد الولايات المتحدة، وهي الدولة الأولى في صناعة السينما في العالم؟ شركات كهذه تتوجه للعمل في أمريكا بسبب المغريات والتسهيلات التي يتم تقديمها، في حين يمكن أن يكون التعاون في مجالات التكنولوجيا مع الصين بشكل يخدم البلدين تماماً ضمن نفس الهيكلية التي يتم التعامل بها مع "مايكروسوفت" أو "آبل" وغيرهما. وفي حين تقوم الولايات المتحدة بالتصعيد ضد الصين وبالتهديد بمساندة تايوان عسكرياً، فإن شركاتها ما تزال تعمل وبكل انفتاح فيها، في حين أن الشركات والمصانع الأوروبية قد بدأت فعلياً بالتوقف عن العمل. ويمكن للصين التعاقد مع الشركات الفرنسية والأوروبية للعمل في شنغهاي أو إحدى المدن الكبرى وهذا من شأنه أن يقلل الخطر القائم في حال نشوب حرب مع تايوان، والتي تضم معظم شركات التكنولوجيا الأميركية.

إن المصالح التي يمكن تحقيقها بين أوروبا عامة وفرنسا خاصة في حال قررت كل من الصين وفرنسا بدء التعاون الاقتصادي الحقيقي والاستثمار بين البلدين، ومن خلال مشروع نطاق وطريق، ستكون خرافية النتائج على اوروبا، ففرنسا بوابة من المتوسط إلى قلب أوروبا، وستمكنها من التخلص فعلياً خلال سنوات قليلة من التبعية والهيمنة الأميركية، هذا إذا ما قرر ماكرون فعلياً المضي في هذا التوجه وأن ما يقوله ليس مجرد مزاعم، خاصة وأن أمامه بضع سنوات قبل الانتخابات الفرنسية القادمة ليثبت أنه وكممثل لحزبه قادر على تقديم ما تحتاجه فرنسا في هذه المرحلة الصعبة. غير أن استخفاف الولايات المتحدة بتصريحات ماكرون يبعث على التساؤل حول حجم اعتماد أوروبا عليها أمنياً واقتصادياً، خاصة وأن الدعاية الكبرى تجتاح أوروبا حول غزو روسي محتمل لها، وتحذيرات روسيا حول نية الناتو دخول الحرب في أوكرانيا باللحم الحي. في الحقيقة، هذه الادعاءات هي هروب إلى الأمام بسبب الإنجازات التي تحققها روسيا فعلياً في اوكرانيا ولم يعد أمام أوروبا إلا التسليم، أو دخول الحرب، أو التوجه نحو الصين للتمسك بخشبة النجاة.

ايمانويل ماكرون

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

التغطية الإخبارية
مقالات مرتبطة

خبر عاجل