آراء وتحليلات
من الاقتصاد الريعي التابع الى المنتِج المستقل
أحمد فؤاد
أظلّنا الشهر المبارك رمضان، بكل ما يحمله في الذاكرة الجمعية للمسلمين والعرب من انتصارات، ولحظات فارقة لتجلي إرادة الصمود على صفحة تحديات الأيام، وذكريات التضحيات الأثمن والأغلى والأعز. مشاهد تبقى صامدة في الأذهان قادرة على مغازلة القلوب، وكلمات بالغة الدلالة مشرقة بنبض الحياة، واضحة الخطوط والتفاصيل، مهما مرّ عليها الزمن، حكايات خالدة مكتملة البطولة وغاية النبل الإنساني، حفرت في النفس والذهن ملامحها، لا ينساها عقل واعٍ مهما فوّت ونسي كل شيء سواها.
رمضان هو فرصة التغيير وهدنة سماوية تمنح المسلم فرصة نادرة لإعادة القراءة وبناء التصورات، في أيام تمضي متسارعة وأزمات تأتي جملة ومتلاحقة، الهبة الربانية في أصعب الأوقات وأدقها، كيف مرت التحديات بالأمة؟ وكيف استطاعت عبورها حين توفر لها الإيمان والقائد والإرادة، بداية من غزوة بدر في العام الثاني للهجرة مرورًا بعين جالوت ونهاية بانتصار تشرين 1973، يتأكد أن كل أزمة تمر بهذه الأمة تدفع إلى تسييد مبدأ الحل الجماعي لها، وتخاصم وصفة الهروب والحل الفردي المستوردة المقيتة.
المفروغ منه أن الدول العربية –كلها- أمام ظرف أزمة تاريخي، ما يجعل من الشعور بالخطر على الوجود ذاته محسوسًا وعامًا، وبالتالي فإنه أنسب الأوقات لأن يعاد طرح الحلول بفعل التحدي الذي يجعل الناس مستعدة لأن تسمع ومستعدة لكي تستجيب، بعد أن تمحورت الحلول المطروحة حول طريقين لا ثالث لهما، إما باستكمال الطريق الغربي نحو التنمية المزعومة، والتي بدأتها أغلب الدول العربية بالفعل، ولم تجن منها سوى الآلام والفقر والعجز، أو بلف الرأس والعقل نحو البديل الشرقي الذي طرق أبوابنا بالفعل، في ما يشبه الفرصة، أو المنحة النادرة التي لا يقدمها التاريخ مرتين.
وقبل النظر إلى الفرص التي يقدمها الصعود الصيني، لمنطقة جربت الحل الغربي لأزماتها، فلا بد من النظر إلى أين وقفت هذه الحلول وإلى أي مدى وصل بنا الطريق الغربي في محاولات التحديث والنهضة، إذ لا يمكن مناقشة المستقبل قبل تمحيص الواقع وفهمه، وتعريف الحاضر وقراءة تحدياته، وفي هذا كله تستوي كل الدول العربية تقريبًا، عدا البترولية منها، والتي لا تزال تتمتع بميزة الموارد الضخمة، والتي تبقيها طافية على السطح، حتى إشعار آخر.
تنتمي الدول العربية إلى عالم قديم، لا يعرف من التطور سوى قشور مظهرية مستوردة، بينما في قلبها يمكن أن نصفها بمصطلح دول الموز، وهو التعريف الذي تعرف به مجموعة من دول أميركا الجنوبية والوسطى، الساقطة في فخ الإرادة الأميركية وسيطرة شركات واشنطن العابرة للحدود، وهي تسمية أميركية، وردت في كتاب شهير للروائي أوليفر هنري، واستعمله لوصف دولة هندوراس، ومنذ هذا الوقت يحلو للسياسيين إطلاق الوصف على مجموعة من الدول بينها سمات مشتركة في أنظمتها وطريقها الاقتصادي.
ويعرف المصطلح بأنه وصف لدولة فاقدة الاستقرار السياسي وتضربها الاضطرابات الاجتماعية والشعبية، ويقوم اقتصادها على بعض الصادرات الأولية أو المواد الخام اللازمة لتشغيل المصانع الأميركية والغربية، أو منتجات زراعية –مثل الموز في هندوراس- وتتمتع بتقسيم مخل للثروات بين أقلية ثرية تحكم وأغلبية تعيش في فقر مدقع، ويضاف إليها أن نظام الحكم ديكتاتوري خالص، يعتمد ويقوم على العنف وغياب الحقوق وانعدام تداول السلطة، ومصادرة وتأميم كل مستقبل للدولة لمصلحة الحكام والشركات الأجنبية العاملة.
الوضع في الدول العربية، اليوم، صار أسوأ من وصف جمهوريات الموز اللاتينية، فبعض الدول لا تملك بالأصل الموز، ويقوم اقتصادها المترنح على مصادر محدودة ومتغيرة للحصول على العملة الصعبة، السياحة وتحويلات العاملين بالخارج والقروض الخارجية، وفضلًا عن إمكانيات الخنق في كل وقت لهذه المصادر الشحيحة المهتزة، أو حتى الأزمات العالمية التي تهددها في كل وقت، فإن الدول العربية بالأصل لا تملك غذاءها، وبالتبعية لا تملك لنفسها قرارًا ولا خيارًا.
منظمة الأغذية والزراعة العالمية "فاو" تقول إن فاتورة استيراد الأغذية في العالم العربي تبلغ 100 مليار دولار سنويًا، وكل الدول العربية تستورد أغلب احتياجاتها الغذائية، ومع ارتفاع مؤشر الأسعار عالميًا بنسبة 2.2% في شهر ديسمبر/ كانون الأول الماضي عن مستواه في نوفمبر/ تشرين الثاني، فإن مزيدًا من الصعوبات بانتظار الدول العربية، في ظل بقاء التهديدات التي تواجه الإمدادات، خصوصًا من كبار منتجي الحبوب والزيوت مع استمرار الحرب في أوكرانيا.
لم يعد لأغلب الشعوب العربية سوى بقايا أو أشباه دول وهياكل حكم فارغة من كل مضمون، وأنظمة حكم رخوة، ومؤسسات وطنية تائهة مضطربة، يسيطر الارتعاش على مفاصلها، وتقل يومًا بعد الآخر قدرتها على ضخ الدماء في شرايين الجسد المنهك، أو تحريك أطرافها، وهي حتى إن رأت الخطر قادمًا لا تستطيع فكاكًا من طريقه، فكأنها تمضي في طريقها مستسلمة، تأخذها التطورات والحوادث مجبرة إلى مصير حتمي، بأكثر مما تحملها أقدامها.
يمكن لأي عاقل أن يطرح حلولًا ما للواقع العربي، دون أن يتصل طرحه مباشرة بالانتقال من الاقتصاد الريعي التابع والمرتهن للغرب ولأميركا، بهيكل اقتصادي جديد يقوم على قطاعات إنتاج حقيقية، زراعية وصناعية، تكفل القدر اللازم من سيادة الدولة واستقلال قرارها. لا يوجد أي حل خارج صرخة الحق التي أطلقها منذ سنوات سماحة السيد حسن نصر الله، والتي تعيد استنساخ مبدأ المقاومة في كل تفاصيل الحياة اليومية لعموم الناس.
إيران التي قدمت –وتقدم- المثل على الإرادة الجبارة لأمة تعيش وتعمل تحت الحصار منذ أكثر من 4 عقود، تقدم القدوة أيضًا في مجال الحلول الممكنة للواقع المأزوم، باعتمادها على تنمية تتمحور حول الذات في سعيها المستمر لكسر الهيمنة الأميركية. الاتحاد العالمي للصلب أعلن عن قائمة أكبر 10 بلدان مصنعة للحديد، وجاءت إيران في المرتبة التاسعة، بحجم إنتاج يبلغ 2.4 مليون طن في أول شهرين من 2023، وبقفزة هائلة نسبتها 14.6٪، وهي أكبر النسب المتحققة متفوقة على الصين التي زاد إنتاجها 5.6٪، وكوريا الجنوبية 1.1%.
يمكن فهم هذه الأرقام في ظل كون الحديد هو السلعة الأولية لأي عملية إنتاجية أو تنموية. كل الصناعات تقريبًا تحتاج إلى الحديد، كما تستلزمه أي عمليات عقارية وخدمات وبنية تحتية، وهي إذ تقدم نموذجًا لإمكانيات الفعل الجبار إذا توفرت الإرادة، فإنها تقدم دليلها الخاص على النجاح، مهما كانت الظروف، ومهما حيكت المؤامرت أو وضعت قوانين العقوبات والحصار.
الاقتصاد المقاومالاقتصاد الريعيالاقتصاد المنتج
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024