آراء وتحليلات
شهادات عسكرية أوكرانية حول تدهور ميداني.. ماذا عن هجوم الربيع؟
د. علي دربج - باحث وأستاذ جامعي
رغم الحماسة الزائدة للقيادة السياسية والعسكرية في أوكرانيا وثقتها المفرطة ــ خلال أي لقاء مع أي رئيس غربي أو مسؤول في حلف الناتو ـــ بقدرة جيشها على الحاق الهزيمة بالجيش الروسي، وبالتالي استعادة الاراضي التي استولى عليها الأخير، إلاّ أن الصورة في الميدان تبدو مختلفة تمامًا.
فالقوة العسكرية الأوكرانية، تعاني من تدهور وتراجع خطير في الكفاءة القتالية بسبب عام من الخسائر الفادحة في صفوفها، والتي طالت المقاتلين الأكثر خبرة في ساحة المعركة، مما دفع بعض المسؤولين الأوكرانيين إلى التشكيك في استعداد كييف لشن هجوم الربيع الذي طال انتظاره.
ماذا تقول إحصاءات "الناتو" عن خسائر القوات الأوكرانية بعد عام على المعركة؟
عمليًا، قدّر المسؤولون الأمريكيون والأوروبيون، أن ما يصل إلى 120,000 جندي أوكراني قتلوا أو جرحوا منذ بدء المواجهة بين قوات الأطلسي ــ وروسيا في أوائل العام الماضي، مع العلم أن أوكرانيا، تحرص على اخفاء الأعداد الحقيقة لضحاياها حتى على أقرب مؤيديها الغربيين.
وفي هذا السياق، أقرّ الجنرال فاليري زالوجني القائد العام لأوكرانيا أن التحديات تنبع من الخسائر الفادحة التي تكبدتها أوكرانيا. ففي آب الماضي وحده، لقي ما يقرب من 9000 من الجنود الأوكران حتفهم. لكن المسؤولين الغربيين قدموا تقديرات أعلى.
وعليه، وبغض النظر عن الإحصاءات، فإن تدفق المجندين عديمي الخبرة، الذين تم الاتيان بهم لسد الخسائر قد غيّر صورة القوة الأوكرانية "المنتفخة" ــ لدى الخبراء العسكريين الغربيين ـــ التي تعاني أيضًا من نقص أساسي في الذخيرة، بما في ذلك قذائف الهاون المدفعية الثقيلة، وفقًا لشهادة عسكريين أوكرانيين يخدمون في الميدان.
ماذا تضمنت شهادات العسكريين الأوكرانيين عن وضع قواتهم الحالي واستعداداتهم لهجوم الربيع؟
بخلاف ما يروجه المسؤولون الأوكران عن النجاحات في أرض المعركة، حذر قائد كتيبة في لواء الهجوم الأوكراني الجوي 46 كوبول، وأفراد عسكريون آخرون في لقاء مع صحفيين أمريكيين من أن المهمة ستكون صعبة للغاية مع إصابة أو قتل العديد من المقاتلين الأكثر خبرة في أوكرانيا.
وتحدث القائد الأوكراني كوبول عن الواقع المأساوي للجيش الاوكراني قائلا: "إن الشيء الأكثر قيمة في الحرب هو الخبرة القتالية. فالجندي الذي نجا ستة أشهر من القتال، والجندي الذي جاء من ميدان التدريب على الرماية، هما جنديان مختلفان، كما الفرق بين السماء والأرض"، كاشفًا عن أنه "لا يوجد سوى عدد قليل من الجنود ذوي الخبرة القتالية، فكلهم قتلوا أو جرحى بالفعل".
وإذ يعترف القائد الأوكراني بانسحاب وحدته من سوليدار في شرق اوكرانيا في الشتاء بعد أن حاصرتها القوات الروسية التي استولت على المدينة فيما بعد، يستذكر كيف تخلى مئات الجنود الأوكران في وحدات تقاتل إلى جانب كتيبته عن مواقعهم، بعد تقدم مقاتلي "مجموعة فاغنر الروسية" نحوهم.
أما الأكثر أهمية في كلام قائد الكتيبة الأوكراني فهو اقراره، أنه بعد عام من الحرب لا يمكنه جمع كتيبته. فمن بين حوالي 500 جندي قتل ما يقرب من 100 في المعارك، وجرح 400 آخرون، أي أن كتيبته بأكملها باتت معطلة ومشلولة، إلى حد أنه أصبح المحترف العسكري الوحيد في الكتيبة.
بالمقابل، يروي كوبول معاناته وكفاحه المرير من أجل قيادة وحدة مؤلفة بالكامل من قوات عديمة الخبرة، حيث قال "أحصل على 100 جندي جديد. لا يعطونني أي وقت لإعدادهم. يقولون خذهم إلى المعركة. إنهم يسقطون كل شيء ويركضون". وأضاف "هل تفهم لماذا؟ لأن الجندي لا يطلق النار. سألته عن السبب، فيقول أخشى صوت الطلقة. ولسبب ما، لم يلقِ مطلقًا قنبلة يدوية. لذلك نحن بحاجة إلى مدربي الناتو في جميع مراكز التدريب لدينا".
وانطلاقًا من هذه العيوب والثغرات، يرى كوبول أن كييف بحاجة إلى التركيز على إعداد أفضل للقوات الجديدة بطريقة منهجية، بدل إجراء مقابلات وأخبار الناس بأننا فزنا بالفعل، او بعد وقت قصير، أسبوعين ، سنفوز".
إضافة الى هذه الاخفاقات أعلاه في الاعداد والتدريب، تواجه كييف نقصًا حادًا في الذخيرة، بما فيها القنابل لطائرات بدون طيار من طراز "إم كيه 19" الأمريكية الصنع، وهو ما دفع واشنطن وحلفاءها الى المسارعة لمعالجته، حيث سيطرت الناقشات حول كيفية دعم المخزونات الأوكرانية على الاجتماعات اليومية بشأن الحرب في مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض.
بموازاة ذلك، يتحدث مسؤولون ميدانيون عن الإجهاد الناجم عن الصدمة، وهو جرح غير مرئي يعيق الجنود الأوكرانيين. من هنا تتقاطع رواية جندي أوكراني يدعى "دميترو"، للعديد من الظروف المأساوية في الميدان، مع كلام القائد الاوكراني، حيث يؤكد دميترو أن بعض القوات الأقل خبرة التي تخدم في موقعه مع اللواء 36 مشاة البحرية في منطقة دونيتسك "تخشى مغادرة الخنادق". ويضيف "القصف يكون مكثفًا في بعض الأحيان، بحيث يصاب أحد الجنود بنوبة هلع، ثم يصاب بها آخرون".
ويوضح دميترو أنه في المرة الأولى التي رأى فيها زملاءه الجنود في حالة اهتزاز شديد حاول التحدث إليهم.. في المرة التالية هربوا من الموقع.
ماذا عن هجوم الربيع؟
على أرض الواقع، تبدو المعطيات الميدانية أقل تفاؤلاً بكثير من التصريحات العلنية الاستهلاكية الاعلامية للقيادة السياسية والعسكرية في أوكرانيا، بعدما كان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وصف عام 2023 بأنه "عام النصر" لأوكرانيا. فيما روّج رئيس مخابراته العسكرية كيريلو بودانوف بإمكانية أن يقضي الأوكرانيون عطلة هذا الصيف في شبه جزيرة القرم.
ومع ذلك يعتري كييف الشكّ، حول مقدار المساعدة العسكرية الغربية المتزايدة وما اذا كان مستوى التدريب سيقلب التوازن في هجوم الربيع، وهذه الأمور لا تزال غير مؤكدة، بالنظر إلى الاستنزاف الذي بدأ يظهر في الميدان.
هذه التقييمات المروعة أدت إلى انتشار تشاؤم ملموس ــ وإن لم يكن معلنًا في الغالب ــ بدأ من الخطوط الأمامية، ووصل إلى أروقة السلطة في العاصمة كييف.
زد على ذلك، أن عدم قدرة كييف على تنفيذ هجوم مضاد ولّد انتقادات جديدة من قبل الاوكرانيين دفعتهم الى القول بأن الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين انتظروا طويلاً حتى تتدهور قوة الجيش الاوكراني بالفعل، لتعميق برامج التدريب وتوفير مركبات قتال مصفحة، بما في ذلك الدبابات القتالية من طراز "برادلي" و"ليوبارد"، خصوصًا أن هجومًا مضادًا في الربيع سيتطلب قوة بشرية كبيرة وذخيرة لإخراج القوات الروسية من الأراضي التي يسيطرون عليها، وهذا ما تفتقر إليه اوكرانيا حاليًا.
وفي هذا الاطار، شبّه مسؤول حكومي أوكراني رفيع (رفض الافصاح عن هويته للصحفيين)، عدد الدبابات التي وعد بها الغرب بأنه "رمزي"، في حين أعرب آخرون بشكل خاص عن تشاؤمهم، من أن الإمدادات الموعودة ستصل إلى ساحة المعركة في الوقت المناسب.
وتبعًا لذلك، قال المسؤول الكبير: "إذا كان لديك المزيد من الموارد، فإنك تهاجم بنشاط. لهذا السبب إذا سألتني شخصيًا، فأنا لا أؤمن بهجوم مضاد كبير لنا. أود أن أؤمن بذلك لكني أنظر إلى الموارد وأسأل: بماذا؟".
وأوضح المسؤول المذكور: "ليس لدينا أشخاص ولا أسلحة.. عندما تكون في موقف هجومي تخسر ضعف أو ثلاثة أضعاف عدد الأشخاص. لا يمكننا تحمل خسارة هذا العدد الكبير من الناس".
إضافة الى ذلك، حتى مع وجود معدات وتدريبات جديدة، يعتبر المسؤولون العسكريون الأمريكيون أن القوات الأوكرانية غير كافية للهجوم على طول الجبهة العملاقة، حيث أقامت روسيا دفاعات جوهرية.
في المحصّلة، وأمام تلك الوقائع والشهادات، وبدلًا من قيام القيادات الأوكرانية بمصارحة شعبها بالحقائق، اختارت المضي قدمًا باستراتيجية المكابرة ولم تتردد بمعاقبة كل من يسرب أي معلومة تشرح الواقع كما هو، ولهذه الغاية استقال القائد كوبول من منصبه قبل اسبوعين، بعد أن قام رؤساؤه بتخفيض رتبته بسبب تصريحاته وكشفه لتلك الحقائق.
المفارقة أن عقاب كوبول أثار غضب البعض في أوكرانيا الذين قالوا إن تعليقاته تعكس حقيقة ضرورية لا يرغب القادة الأوكرانيون في سماعها. تبعًا لذلك كتب النائب في البرلمان الأوكراني فولوديمير أرييف، على فيسبوك قائلًا: "هذه الحكومة تريد أن تسمع فقط ما تريده"، فيما أوضح آخرون أن "القيادة في كييف لديها دائرة ضيقة لا تنقل لها أخبارًا سيئة. إنها تقوم بتصفية الأخبار السيئة".
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024