آراء وتحليلات
زوال الكيان المأزوم.. عوامل واقعية
يونس عودة
تعدت "اسرائيل" مرحلة القلق الوجودي إلى مرحلة الخطر الحقيقي بالزوال الحتمي، وهي تعيش أخطر أزمة منذ انشأها على أرض فلسطين، سياسيًا على المستوى الداخلي وكذلك العالمي، واجتماعيًا على كل المستويات، ولا سيما بين القوى ذات المناشئ المتعددة الهويات، وبالأخص أيضًا على مستوى الجيش المنتج من سلالة العصابات الصهيونية التي تنافست مع النازية في جرائم القتل والتدمير والتشريد.
إن الأزمة المتمظهرة على خلفية التعديلات القضائية التي يريد فرضها بنيامين نتنياهو ليست سوى الطفح الجلدي الذي يعكس ما يعانيه الجسم في داخله، لكنه أظهر حقائق طالما حاول قادة الكيان المؤقت اخفاءها بتخويف المستوطنين من خطر خارجي محدق، وبالتالي على الجميع الالتفاف حول الأجهزة العسكرية والأمنية، باعتبار هذه الأخيرة من خلال قوتها الممولة والمدعومة من الغرب، ما بعد الحرب العالمية الثانية هي ضمانة استمرار الكيان وتأثيره في صياغة سياسة الخرق والاختراق العالمي إلى جانب اللوبيات الصهيونية المنتشرة في العالم.
السؤال الذي يطرح نفسه، هل لا زالت ذريعة التخويف مجدية في ظل ما يحدث من تمرد على الأوامر وتنفيذ المهام من شرائح عسكرية مهمة؟
المنطق والحقيقة يقولان إن هذه الذريعة لم تعد مجدية رغم المحاولات الدؤوبة، أكان في التهديد أو الترغيب. ولذلك يعمد الجهاز العسكري والأمني الى احتواء ما أمكن، اذا أمكن، لكن مقابل ـن يتنازل نتنياهو عن طروحاته التي أدت إلى تنافر واسع مع اتساع رفض الخدمة ورفض المستوطنين تجنيد أبنائهم في الوحدات القتالية. وقد حذّر رؤساء الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من تصاعد "الغليان الميداني وداخل الجيش والأجهزة الأمنية"، وذلك خلال لقاءات عقدها نتنياهو، مع رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، هرتسي هليفي، وجهاز الأمن الإسرائيلي العام (الشاباك)، رونين بار، ووزير الحرب، يوآف غالانت. وذكرت القناة الرسمية في كيان العدو ان مخاوف الأجهزة الأمنية لا تتعلق فقط باتساع احتجاج جنود الاحتياط "بل بتصاعد الغليان الداخلي في صفوف العناصر الذين يخدمون في قوات الأمن".
لم يحصل ان تمرد 43 بالمئة من ضباط وجنود الاحتياط في اليوم الأول لتدريبات اللواء 551، وهو لواء مظليي النخبة، فيما ذكرت مصادر أن نسبة الامتثال في الخدمة في هذا اللواء يصل عادة إلى حوالي 90%، وفق ما ذكرت صحيفة "هآرتس"، ووصف جيش العدو استدعاء قوات الاحتياط لهذه التدريبات بأنه "اختبار هام لفحص اتجاهات رفض التطوع في الاحتياط".
وبحسب المعطيات، فإنه في اليوم الأول للتدريبات امتثل 57% من بين جنود الاحتياط في اللواء البالغ عددهم 700، بينما كان يتوقع أن يمتثل 78% على إثر احتجاجات عناصر الاحتياط ضد الخطة القضائية. كذلك امتثل 58% في سرية نخبة التي يخدم فيها جنود كانوا خلال خدمتهم النظامية في وحدات نخبة ولواء الكوماندوس. أي أن نسبة المتمردين على التعليمات بلغت 42 بالمئة وهو رقم غير مسبوق حتى في العصابات المتفلتة.
طبعًا هذه المرة الأولى التي يعترف فيها جيش العدو ببدء رفض فعلي للخدمة ما دعا الأركان إلى رفع الصوت لمداولات عاجلة ومغلقة، حيث عبّر مصدر أمني أن هذه المعطيات "مقلقة جدا" وأنه يوجد تراجع عام في السنة الأخيرة في امتثال عناصر الاحتياط، "لكن حالة اللواء 551 يقلق الجيش بشكل خاص"، فيما قال مصدر أمني آخر إن "هذا بعيد عما حلمنا بالوصول إليه، وهذا حدث ليس بسيطا".
الأهم أن تحذير قادة احتجاجات قوات الاحتياط كان من "تفكك الجيش" وأكدوا أن الآلاف سيمتنعون عن تأدية الخدمة العسكرية في حال استكمال تشريعات الخطة القضائية. وقال قادة احتجاجات قوات الاحتياط على خطة التعديلات في القضاء إن "الخط الأحمر يقترب، وإذا تمت المصادقة على التشريعات، سنتوقف نحن وآلاف آخرين عن الخدمة" العسكرية، الجيش يتفكك أمام أعينكم وأنتم صامتون منذ 11 أسبوعا".
هذا الأمر دفع نتنياهو ووزير حربه يوآف غالانت إلى الحضور الى مكتب التجنيد في يوم تجنيد جنود جدد إلى لواء "جولاني"، الذي يعتبر من أبرز الوحدات القتالية في جيش العدو. وبحسب مكتب التجنيد، فإن امتثال جنود الاحتياط في تدريبات عسكرية تراجع بعشرات النسب المئوية، وحاول نتنياهو أن يستعطف بحزم الحاضرين وقال للمجندين إنه "لن يكون لدينا دولة بدون جيش، ولن يكون لدينا دولة بدون جنود يتجندون للخدمة العسكرية، وأنتم تتجندون من أجل الدفاع عن التراث"، حسب قوله، إلا أن الجواب كان واضحًا: "في حال المصادقة على الانقلاب القضائي، سيكون هناك أهالي سيعملون من أجل منع تجنيد أولادهم في الوحدات القتالية، هذا التحذير من شأنه تغيير وجه الجيش عن ما هو حاليًا".
أما غالانت فاعتبر أن "الدعوات إلى عصيان الأوامر العسكرية في الجيش خطيرة، وتنخر في أساس "إسرائيل""، وقال "الدعوة إلى الرفض خطيرة.. إن ظاهرة العصيان الواسعة الانتشار من شأنها أن تضعف قدرة الجيش الإسرائيلي على تنفيذ مهامه". و"بدون الجيش، لا يمكن لـ"دولة إسرائيل" ومواطنيها الوجود.. العصيان يقوض أساسنا الرئيسي..الأمن"، على حد تعبيره.
لقد وصل الجدل الى مكان لا يبدو فيه أنه يمكن أن يخبو إلا في حال تحقيق أحد الأطراف المتصارعة فوزًا كاسرًا على الطرف الآخر، فيما يبحث كل طرف عن ضحية تتحمل المسؤولية رغم قناعة الجميع أن ما فسد لا يمكن اصلاحه.
فالمفتش العام للشرطة الإسرائيلية يعقوب شبتاي رد على تهديدات حكومة نتنياهو له ولضباط الشرطة، وقال إنها لا تخيفه وأن الشرطة ستستمر بالسماح بحق التظاهر والاحتجاج على خطة إضعاف جهاز القضاء.
اضافة الى سباق، فإن عوامل مهمة كثيرة هي التي صنعت القواعد الحقيقية لزوال الكيان:
1 - أن سياسة القتل والترويع والتهجير والاقتلاع لم تعط الأكل المطلوب على مستوى الشعوب العربية وفي المقدمة الشعب الفلسطيني الذي لم يهن، بل أطلق مقاومة من نوع جديد لا يقدر العقل الصهيوني أن يستوعب كنهها وصارت جزءًا مهمًا في محور لا يساوم على الحق مهما بلغت التضحيات، محور المقاومة.
2 - وصول بعض المراهنين على امكانية التعايش مع الجسم الغريب تبدو مستحيلة، بعد تجارب الاتفاقيات التسووية التي سرعان ما ينقلب عليها قادة الكيان.
3- اجتماع العقبة واجتماع شرم الشيخ اللذين عقدا بضغط وترتيب أميركيين قدما الدليل الواضح بعدم امكانية التزام الصهاينة بما يوقعون لا بل يجاهرون مثل نتنياهو بأن ما جرى في العقبة الاردنية بقي في العقبة، فيما قال وزراء إسرائيليون إن التفاهمات التي تم التوصل إليها في اجتماع شرم الشيخ غايتها الأساسية "إعلامية وعلاقات عامة أمام الأميركيين والفلسطينيين"، وأوضح لوزراء أنه من الناحية الفعلية اتفق رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو مسبقا وراء الكواليس مع أحزاب الائتلاف على أنه لا توجد أهمية للتفاهمات على أرض الواقع حسبما نقل الاعلام الصهيوني الرسمي.
4- ردود الفعل العربية وبعضها مضبوط اميركيا في أعقاب أقوال رئيس حزب الصهيونية ووزير المالية والوزير في وزارة الأمن بتسلئيل سموتريتش، التي زعم فيها أنه "لا يوجد شعب فلسطيني" وعبر عن تبنيه لـ"أرض إسرائيل الكبرى" وأنها تشمل الأردن، إضافة إلى أقواله العنصرية حول "محو حوارة من الوجود"، وعليه ساد تخوف في جهاز الأمن الإسرائيلي من تراجع العلاقات الأمنية بين "إسرائيل" وبين مصر والأردن.
5- الخوف الاميركي الفعلي على الكيان وتقديم النصح لقادته بضرورة عدم الاقدام على خطوات مستفزة أكان داخليًا أو على مستوى الاستيطان، ومنسوب القتل، مع الابتزاز المتبادل لجهة عدم تحديد موعد حتى الآن لنتنياهو مع الرئيس الاميركي جو بايدن. وبهذ السياق نقل مسؤولون أمريكيون، رسالة إلى نتنياهو، تحثه على عدم زيارة الولايات المتحدة الأمريكية، وأرجع المسؤولون سبب تقديم النصيحة لنتنياهو، تجنبًا لما قد يقوم به بايدن الذي قد يحرج نتنياهو وينتقده جراء الأزمة القضائية.
6- العلاقات المتردية للكيان مع المجموعة الاوروبية.
7- جاء الاتفاق السعودي – الإيراني ليصيب الكيان والاميركيين بصاعقة لا يمكن استيعاب تداعياتها من الطرفين في ظل التحريض على مواجهة ايران، لأن أهم نتائج الاتفاق تكمن في القضاء على تشكيل ما سمي "ناتو عربي" يكون الظهير العملاني في مواجهة ايران، وقد عبرت قيادات إسرائيلية ببساطة عن مخاطر الاتفاق واعتبرته فشلًا تامًا وخطرًا لسياسة الحكومة الإسرائيلية الخارجية و"انهيار للجدار الدفاعي الإقليمي الذي بدأنا ببنائه ضد إيران". بينما كان يعلن بنيامين نتنياهو إنه يعمل على إشراك السعودية ضمن تحالف إقليمي ضد إيران.
9- ليس بسيطًا ما اعترف به وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أمام مجلس الشيوخ بأن الوضع القائم بعد الحرب العالمية لم يعد موجودًا، وقال إن "اجتماعنا يأتي في لحظة فارقة. فقد ولّى عالم ما بعد الحرب الباردة وهناك منافسة شديدة جارية لتحديد ما سيأتي بعد ذلك. وبالطبع فإن الكيان كان أحد نتائج تلك الحرب".
عليه، ومع الأخذ بالاعتبار أيضًا ما يجري في العالم من أجل ولادة عالم متعدد الأقطاب، وكان اعلان القمة الصينية - الروسية واضحًا في هذا السياق وتأكيدهما أن ايران حليف موثوق أي شريك هي وحلفائها في انتاج العالم المرنو اليه، لا يمكن لهذا العالم أن يكون تحت سقفه كيانات مصطنعة.
ولذلك، يرى قادة الكيان أنه لا مفر لاطالة عمر كيانهم المترنح من القيام بعمل يفسح له البقاء بشكل ما اذا حقق مرادهم الموهوم وهو القيام بحرب ضد ايران، وفي السياق كشف موقع "أكسيوس" الأميركي أن "إسرائيل طلبت من واشنطن تسريع تسليمها 4 ناقلات جوية من طراز KC-46". و إسرائيل بحاجة للناقلات الأربع للتزود بالوقود جوا، استعدادا لضربة محتملة ضد إيران". وأن "إسرائيل أبلغت واشنطن ودولا غربية، عزمها ضرب إيران إذا خصّبت يورانيوم فوق مستوى 60%". وأفاد التقرير بأن وزير الحرب الأميركي لويد أوستن، أبلغ الإسرائيلين بأن واشنطن ستحاول تسليم الناقلات الجوية في وقت أبكر". وللمفارقة، فإن التهديدات الاسرائيلية هذه تتغير مع مرور الوقت وتتطور مع البرنامج النووي الايراني، فالكيان كان سابقًا يهدد الجمهورية الاسلامية بالحرب اذا ما وصل مستوى التخصيب الى 20%، أما اليوم فهو يخفض مرغمًا عنه من سقف تهديداته,
من الواضح أن الأشهر المقبلة ستكون على الأرجح في ذروة اللهب وأن قادة الكيان طالما أخطأوا في الحسابات الميدانية منذ بداية ظهور مقاومة من نوع غير مسبوق وصولًا إلى تشكل محور المقاومة المتحفز للحظة التاريخية التي أعد من أجلها استئصال الجسم الغريب عن المنطقة.
قال ديمتري ميدفيديف نائب رئيس مجلس الأمن الروسي إن السنوات العشر المقبلة لن تكون هادئة بسبب رغبة الغرب في الهيمنة. إلا أن جملة لماحة تنطبق على الكيان المؤقت بكل تفاصيلها: "أن بعض "الدول" (الكيانات) لا تفهم ولا تستمع إلا للغة القوة، لذلك لا فائدة من الاتفاق معها".
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024