معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

التوجه شرقًا.. ليس ترفًا
25/03/2023

التوجه شرقًا.. ليس ترفًا

أحمد فؤاد

فشلت الأمة العربية، على مدى يزيد عن قرنين من الزمان، في رهانها الأول للتحديث واللحاق بعصر النهضة الأوروبي، منذ تجربة محمد علي بمصر في 1805، وضعت الأنظمة العربية المتتالية رهانها على إمكانية نقل –وربما استنساخ- عناصر التقدم الحضاري للقارة العجوز، وقت أن كانت بريطانيا وفرنسا هما قطبا العالم وأهم فاعليه وأغنى إمبراطورياته.

لم يعرف الأوروبي في المنطقة العربية سوى أنها مورد أقرب وأرخص للمواد الخام، وسوقًا أوسع وأكبر لمنتوجاته، وبالتالي فإن محاولات التصنيع وتجارب اللحاق جرى سحقها وإفشالها والتآمر عليها، وهذه العلاقة بين المحاولات العربية، بأثمانها وتكاليفها وخسائرها وإحباطها، وبين استمرار الهيمنة الأوروبية لا تحتاج لبيان بعد، فهمت أوروبا أن رخاء دولها مرتبط بضمان تأخر الآخرين، وأنه بمقدار ما تضمن من تدفق المواد الخام وتجبرنا على فتح أسواقنا أمام صناعتها، فإن سيطرتها وتقدمها وتربعها على قمة العالم متحقق، الأغرب من استمرار هذه المعادلة فاعلة ضد مصالح العالم العربي، إن المحاولات استمرت حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.

ومع انتقال مقعد القيادة العالمية عبر الأطلنطي إلى الولايات المتحدة، فإن المعادلة تغيرت إلى شكل جديد، أكثر بساطة وأشد ترويعًا، في آن، وهو أن البقاء الأميركي مرهون باستنزافنا، نزح الثروات العربية أولًا بأول، ومص الموارد والإمكانيات، واستمرار الحصار والتفتيت والتخلف، ونشر الدمار والبؤس، لذا فإن دولة مثل المملكة العربية السعودية، وهي ثاني أهم حلفاء واشنطن في المنطقة بعد الكيان، ورغم توافر الفوائض الهائلة من أموال النفط لمدة تزيد عن نصف قرن، بعد طفرة الأسعار إبان حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، لم تنجز تحولها الصناعي الموعود، حتى اللحظة، بل وصارت أحدث خططها "التحول الوطني 2020" و"رؤية المملكة 2030" عبارة عن مشروعات ترفيه وحفلات تعري هائلة.

حمل إلينا الخطاب الجديد لسماحة السيد حسن نصر الله، إجابات عن أسئلة المصير التي تكاد تعصف بنا وتخسف من تحت أقدامنا الأرض، إجابات موجودة ومتاحة عن الهوية والمصلحة والأمل والأمن الاجتماعي، رؤية صحيحة وكاملة للصراع العالمي المشتعل، والمشهد الجديد الذي يوشك على التشكل، بين إمبراطورية لم تعد تستطيع تحمل أكلاف تواجدها في كل نقطة بامتداد الكوكب، رغم أنها –في طور تراجعها الحالي- تضغط على حلفائها حد العصر والخنق، لاستنزاف مواردهم وإمكانياتهم وتجييشها لصالح مواجهتها المصيرية مع روسيا، الأمر الذي أشعل الأزمات في أوروبا بالذات، فرنسا مثالًا على بداية انفجار الضغط الهائل، ثم هي بعد كل هذا عاجزة وتعاند.

الصين في طور صعودها الحالي، تطرق أبواب العالم العربي، عبر ما يمكن اعتباره "تحالف المصلحة"، دولة كبرى وفاعلة طوال التاريخ الإنساني تعود إلى مقعد الصدارة والريادة، لكنها لا تملك إرث السيطرة والاستعمار البغيض، وهي أكثر فرصة قائمة للعالم العربي كله، واللحظة الحالية كما تحمل الأزمة فإن في باطنها الرحمة والأمل، بكسر احتكار الأميركي للمنطقة أولًا، ثم بنشوء معادلة جديدة مع عالم جديد، يراعي مصلحة المنطقة وأهلها، ويقدم لها بقدر ما يريد أن يأخذ منها، وقبل أي شيء، يحمل لنا حق الحلم بالمستقبل.

قال سماحة السيد ما نصه أنّ "هناك دولة ضخمة كبيرة، جاهزة للاستثمار في لبنان. لماذا الأبواب مؤصدة؟ هذا لا يحتاج لسنوات من الجدل البيزنطي، بل إلى قرار وشجاعة سياسية"، وهي النقطة الفارقة في الأزمة الحالية، و"فصل الخطاب" في تجاوز الخلل الهائل الواقع على لبنان، وعلى غير لبنان بامتداد المنطقة كلها، إما أن تمتلك الدول العربية إرادة القرار أو أن تستكمل دورانها الجنوني في الفلك الأميركي المدمر، بما يحمله الأخير من انفجار اجتماعي مؤكد، شواهده قائمة، واحتمالات العشوائية فيه لا يمكن توقع مدى حوادثها، أين ومتى وكيف.

لم يعد قرار التوجه شرقًا ترفًا، يمكنه الانتظار أو يحتمل التأجيل، وآخر التصريحات الصادرة من أرنستو راميريز، رئيس بعثة صندوق النقد الدولي إلى لبنان، تكشف الحقيقة عارية مريرة، إذ اختتم زيارته بكلمات غارقة في التشاؤم والألم، وأكد أن "لبنان في لحظة خطيرة للغاية، عند مفترق طرق، والستاتيكو القائم والتقاعس عن اتخاذ إجراءات مطلوبة من شأنه أن يدخل البلاد في أزمة لا نهاية لها".
..

في النهاية، وبالنظر إلى كل مشروع عربي للتنمية والنهضة اعتمادًا على المنهج الأميركي، أو انتظارًا لوعود الرخاء الهوليوودية، فإن ما يمكن استنتاجه، بغير تحميل ودون تجميل، هو أن أغلب المشروعات العربية كانت منزوعة الإرادة ثم هي ليست ترجمة صحيحة لمجتمعاتها، تمامًا كالحمل خارج الرحم، أما المشروع الإيراني الذي انطلق قبل أكثر من 4 عقود كان حملًا طبيعيًا، لأن الثورة الإسلامية كانت متسقة مع ذاتها، ومتسقة مع ثقافة الأمة وشخصيتها، معبرة عن هوية وطنية جامعة قادرة على صنع الولاء لمشروع التغيير، وإجابة صحيحة عن سؤال المصالح، بما يرتب من التزام وينطوي عليه من كلفة، وهي كلها شروط مشروع تمكن أن يجابه وقادر أن يستمر واستطاع أن ينجح.

 

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات