معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

هوية المستضعفين
23/03/2023

هوية المستضعفين

هادي قبيسي

نشأت في غرب آسيا حالة متقدمة في تجربة المقاومة والتحرر من الاستعمار والهيمنة، ذلك أنها غير موحدة ضمن إطار فكري أحادي، بل تعمل على أساس التنوع الكبير، بحيث يصعب تصنيف مجموع هذا التنوع إلا بعنوان عام يتصل بالغايات الكلية والتحديات التي توحد حالات المقاومة المتنوعة والمتكثرة، وأحد هذه العناوين هي عنوان "المستضعفين". فهل يمكن جمع المستضعفين في هوية موحدة بأقوامهم وعرقياتهم ودولهم وأحزابهم وثقافاتهم وأديانهم ومذاهبهم؟ ما الناتج الذي يمكن أن يتمخض عن هكذا اجتماع؟ وكيف يمكن توظيف هذه المفردة في التبصر في تركيب هذه الهوية الجامعة؟

مفردة الاستضعاف مصدرها قرآني، وهي تشير إلى تعرض فئة من البشرية إلى المعاملة المستهينة بها، بناءً على نظرة الآخرين إليها على أنها ضعيفة وتعاني من الضعف، ونتيجة استخدام الوسائل والطرق التي تسمح بالتعامل معها من موقع القوة والقهر، فيحصل الاستضعاف، فهو من مستويين الأول في الوعي والثاني في الممارسة المباشرة، وينتهي هذا الطريق بجعل هذه الفئة تعيش في حالة من الضعف، مبنية على الشعور والإدراك وتقبل أنها فئة ضعيفة وعلى العوامل الخارجية التي تفرض عليها التعامل من منطلق الضعف.

المرحلة الثانية من تطور الإدراك تبدأ مع إثارة قابلية التحرر وتتعلق بوعي واقعي لهذا الاستضعاف، وعي أن هذا الضعف مصطنع وغير ذاتي ولا علاقة له بالهويات، وأنه ناتج عن قبول وتغافل من جهة وعن تدبير وتصميم المستكبر من جهة. في هذه المرحلة ينشأ ما يمكن أن نسميه "الوعي التحرري"، ويتضمن معرفةً وإيماناً بإمكانية الخلاص من الطغيان، ومعرفة بكيفية ذلك الخلاص على المستوى الكلي ومعرفة بأفق التعلم المطلوب للاستمرار والاستدامة.

تحول هذا الوعي إلى هوية عابرة للحدود القومية والمذهبية والدينية، هوية تجمع وتحفظ خصوصيات الهويات الفرعية، ينتج قابلية اجتماع المتضررين من الطغيان واستعادتهم للقوة العادلة المتوازنة. وإذا نظرنا إلى أن هؤلاء المتضررين يشكلون أغلبية البشرية على مر التاريخ، سندرك أن نقطة ارتكاز الاستكبار هي منع ولادة هذه الهوية (وجعل أهلها شيعاً).

تحمل هذه الهوية الجامعة مجموعة من الخصال التي تحولها إلى عنصر لاحم للهويات الفرعية، التعارف والتعاطف والتراحم ووحدة الهدف ووحدة العدو وضرورة التحرر وحتميته الأكيدة والعمل المشترك والتعلم المتبادل وأولوية الهوية العامة الجامعة على المتطلبات أو التوجهات الفرعية الناقضة للهوية الكلية، والدفاع النامي الذي يحرر الآخرين عبر التحرر الذاتي وينجز التحرر الذاتي عبر تحرير الآخرين في جدلية بعيدة كل البعد عن التبعية والتوكيل. هذه عناصر كافية لولادة هوية جامعة يمكن تعميمها وتطويرها لتشكل قاعدة تحتية لعملية التحرر.

تفتقد هذه الهوية إلى الجذر التاريخي والمستند الجغرافي والتجربة المشتركة في الوعي التي تتبلور في إطار ثقافي يحولها إلى واقع قابل للتكرار، لكنها تمتلك التجربة الفعلية التي وإن كانت غير مكتملة على مستوى الوعي والإدراك إلا أنها تجربة استوعبت عناصر هذه الهوية وعكستها في الواقع التاريخي بشكل عفوي، نتيجة الالتزام الأخلاقي الذي قام وتنامى في المجال التحرري في غرب آسيا خلال العقود الأربعة الماضية.

تحمل الثقافة الإسلامية هذه الهوية في أعماقها الفلسفية والأخلاقية والفقهية، فهي تجمع بين العبودية لله حصراً وبين رفض الطاغوت كشرط لسلامة تلك العبودية، وهذا مرتكز جامع يتموضع في شرط لازم لأصل الالتزام الديني، يترتب عليه التزام تجاه المستضعفين لأمر القرآن الصريح الواضح (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا)، وهذا الالتزام يتضمن التعارف والتماهي مع المستضعفين والتضحية لأجلهم، وهي خاصية فطرية كامنة في كل نفس بشرية متحررة من الطغيان في باطنها وقابلة للتحول إلى سلوك تحرري ظاهري في الظرف الضروري والمناسب، وهي تستبطن في الآن عينه الامتناع عن التوافق مع الناهبين.

المستوى العملاني الذي تعكسه هذه الهوية حينما تصبح فاعلة، ومحركة للعموم والنخب والقوى الدولتية وشبه الدولتية وغير الدولتية، يحفظ الحد الأدنى من الموارد المتوفرة، ويمنع الاسترقاق والتبعية ويحفظ الكرامة، ويحفظ كذلك الهويات المحلية مقابل التهجين، ويفعل التخادم داخل كل هوية فرعية وبين الهويات الفرعية بشكل متبادل بما يؤدي لتماسك الكل والفروع.

يصعب تعميم هذا الوعي التحرري على المستضعفين بشكل دفعي، كما أن البحث عن تساويهم في درجة هذا الوعي والالتزام الناشئ عنه هو سعي دون جدوى، وتمثل ساحة العمل ميداناً للتعامل مع تنوع كبير في الدوافع والمصالح والمعايير، إلا أننا حينما نتحدث عن الهوية العامة نعتمد على الكثرة الغالبة التي تتطلع إلى الانعتاق والتخلص من قيد الطغيان.

ميدانياً، تطورت هذه الهوية وقطعت مسافة باتجاه التشكل والتكون خلال العقد الأخير، بشكل غير مسبوق، نتيجة المشاركة المباشرة في الصراع على أرض سوريا والعراق، والتوحد حول القضية الفلسطينية، بحيث أصبح يمكن الحديث عنها كظاهرة تاريخية في طور الظهور والبناء والتبلور، والقصد من هذا الحديث هو إخراجها إلى مستوى الوعي المباشر، وفتح المجال للنقاش والتعمق لتتحول إلى جزء من ثقافة التداول، وليصبح ممكناً توسيع نطاقها الجغرافي والديموغرافي لتشمل أوسع وأكبر عدد ممكن من المتضررين من الاستكبار.

غرب آسياثقافةالإسلامالاستضعافالمستضعفونالثقافة الاسلاميةالثقافة الغربيةالاستكبار

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

التغطية الإخبارية
مقالات مرتبطة
ماذا تحمل الإدارة الأميركية الجديدة لمنطقتنا؟
ماذا تحمل الإدارة الأميركية الجديدة لمنطقتنا؟
الشرذمة الشرقية والوحدة الغربية.. هكذا يرانا الغرب!
الشرذمة الشرقية والوحدة الغربية.. هكذا يرانا الغرب!
إجهاض مشروع الشرق الأوسط الكبير
إجهاض مشروع الشرق الأوسط الكبير
التصعيد الامريكي في سوريا: قراءة في الخلفيات والأهداف
التصعيد الامريكي في سوريا: قراءة في الخلفيات والأهداف
افتتاح مؤتمر "غرب آسيا المقاوم.. أي نظام عالمي جديد؟"
افتتاح مؤتمر "غرب آسيا المقاوم.. أي نظام عالمي جديد؟"
الأديب الراحل جورج شكّور.. إرثٌ خالدٌ في عالم الثقافة
الأديب الراحل جورج شكّور.. إرثٌ خالدٌ في عالم الثقافة
المقاومة تمثل قمة التاج في ثقافة الحياة
المقاومة تمثل قمة التاج في ثقافة الحياة
القائد الأديب.. احتضانٌ للثقافة والمُطالعة
القائد الأديب.. احتضانٌ للثقافة والمُطالعة
قراءة في كتاب: "الفرعون والقسّيس"
قراءة في كتاب: "الفرعون والقسّيس"
قراءة في كتاب:  القدس.. التاريخ الحقيقي من أقدم العصور إلى الاحتلال الفارسي
قراءة في كتاب: القدس.. التاريخ الحقيقي من أقدم العصور إلى الاحتلال الفارسي
الإمام الخامنئي: القوّة الكامنة في الأمة قادرة على استئصال الكيان الصهيوني 
الإمام الخامنئي: القوّة الكامنة في الأمة قادرة على استئصال الكيان الصهيوني 
بوتين يُهدي مسجد النبي عيسى في الشيشان نسخة من القرآن الكريم مزخرفة بالذهب
بوتين يُهدي مسجد النبي عيسى في الشيشان نسخة من القرآن الكريم مزخرفة بالذهب
اللواء سلامي: جاذبية المقاومة تغلغلت في ساحات جامعات ومدن الدول الغربية 
اللواء سلامي: جاذبية المقاومة تغلغلت في ساحات جامعات ومدن الدول الغربية 
بدء أولى محطات مناسك الحج على صعيد مشعر مِنَى
بدء أولى محطات مناسك الحج على صعيد مشعر مِنَى
أهمية الأسرة وأسس نجاحها في الإسلام
أهمية الأسرة وأسس نجاحها في الإسلام
جماليات السرد المقاوم وأثره السياسي
جماليات السرد المقاوم وأثره السياسي
صراع الحق والباطل: رؤية دينية وفلسفية في التربية الجهادية
صراع الحق والباطل: رؤية دينية وفلسفية في التربية الجهادية
التربية الجهادية من التحديات إلى الآفاق
التربية الجهادية من التحديات إلى الآفاق
ألاعيب الصحافة الغربية في "تجميل" العنف الصهيوني ضد الفلسطينيين
ألاعيب الصحافة الغربية في "تجميل" العنف الصهيوني ضد الفلسطينيين
رئيس المركز الكاثوليكي للإعلام لـ"العهد": الشذوذ خطيئة ومن الكبائر
رئيس المركز الكاثوليكي للإعلام لـ"العهد": الشذوذ خطيئة ومن الكبائر
حرب الوعي
حرب الوعي
إرادة التصدي للعدوان على القرآن: ماذا عن المواقف الرسمية العربية؟
إرادة التصدي للعدوان على القرآن: ماذا عن المواقف الرسمية العربية؟
الرئيس الإيراني: الاستكبار يسعى لإثارة الخلافات بين أبناء الأمة الإسلامية
الرئيس الإيراني: الاستكبار يسعى لإثارة الخلافات بين أبناء الأمة الإسلامية
الإمام الخامنئي يوجّه نداءً إلى الحجّاج: الحجّ يدحض جميع مشاريع الاستكبار والصهيونيّة 
الإمام الخامنئي يوجّه نداءً إلى الحجّاج: الحجّ يدحض جميع مشاريع الاستكبار والصهيونيّة 
الإمام الخامنئي: مصلحة قوى الاستكبار تتمثل بطمس ذكرى الشهداء
الإمام الخامنئي: مصلحة قوى الاستكبار تتمثل بطمس ذكرى الشهداء