معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

السياسة الخارجية الأميركية وإخفاق النخب المنعزلة
18/03/2023

السياسة الخارجية الأميركية وإخفاق النخب المنعزلة

د. علي دربج باحث ومحاضر جامعي. 
 
مع كل اختراق دبلوماسي أو انجاز جيوسياسي تحققه كل من الصين وإيران وروسيا ـــ وآخرها الاتفاق بين طهران والرياض، في غير منطقة من العالم، يستعر الجدل، مجددا في الولايات المتحدة الامريكية، حول مستوى الضعف والترهل الذي اصاب جسم سياستها الخارجية، وترتفع الأصوات الداخلية المحذرة من انعكاسات ذلك على صورة بلاد العام سام، وسطوتها وهيبتها امام الدول الاخرى.

كيف يقيّم الخبراء الامريكيون سياسة بلادهم الخارجية الحالية؟  

خلال رحلته إلى السعودية العام الماضي، أدلى الرئيس بايدن بإعلان -لا يخلو مضمونه من ثقة مفرطة- يتعلق بسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط قائلا: "لن نبتعد ونترك فراغا تملؤه الصين أو روسيا أو إيران". لكن المثير للسخرية، ان التقارب السعودي الايراني الذي تم بوساطة صينية اكد بما لا يترك مجالا للشك، أن هذا هو بالضبط ما حدث، اي ان هذه الدول استغلت هذا الفراغ وستحرص على ملئه.

بالمقابل، بالنسبة للعديد من السياسيين الامريكيين، فإن إعادة العلاقات بين إيران والسعودية ليست في حد ذاتها حدثًا زلزاليًا، كون التواصل بينهما انقطع قبل سبع سنوات فقط. لكن الوساطة الصينية، وما تلاها من مفاجأة التقارب المتجدد بين الرياض وطهران، كشفت عن خلل عميق الجذور في السياسة الخارجية الأمريكية، والذي ازداد سوءاً في السنوات الأخيرة.

وفي هذا السياق من المفيد التذكير بما كتب الصحفي والباحث الامريكي جوزيف جوفي في مقال في العام 1995، تحدث فيه عن مسارين للاستراتيجية الأمريكية الكبرى بعد الحرب الباردة، الأول أطلق عليه اسم "بريطانيا" والثاني "بسمارك".

الأول، حاكى النهج التقليدي لبريطانيا تجاه الجغرافيا السياسية، من خلال بناء تحالفات ضد أية قوى صاعدة تبدو مهيمنة، مع بقائها (اي لندن) بعيدة عن التطور في الانخراط المباشر بهذه التكتلات. الثاني تمثل بدعوة جوفي الولايات المتحدة، إلى اعتماد استراتيجية الوسيط بالاستناد إلى النهج السياسي لبسمارك، رجل الدولة البروسي الذي وحد ألمانيا وجعلها القوة العظمى الرائدة في أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر.

ما تجدر معرفته، ان بسمارك اشتهر بتصوير الوضع المثالي لألمانيا على أنه "ليس حالة الاستحواذ على الأراضي"، غير ان تمدد نفوذها وتوسعها المطّرد وفق رؤيته ليشمل كافة اوروبا، جاء نتيجة  تطورات سياسية شاملة "احتاجت بنتيجتها جميع القوى باستثناء فرنسا، الى المانيا، وبنفس الوقت  كانت هذه (القوى الدول) منفصلة عن التحالفات ضد أميركا بسبب علاقاتها مع بعضها البعض" بحسب بسمارك.

اللافت في الامر، انه اُطلق على العقيدة المرتبطة بنهج بسمارك، اسم "إملاء كيسنجن" ـ بالألمانية تلفظ "كيسنجر" وتعود هذه التسمية لمدينة "باد كيسينجن" في المانيا، حيث قام بسمارك بتدوينها، وليس إلى  وزير الخارجية الأميركي الشهير هنري كيسنجر، لكن المفارقة التاريخية، ان أعظم انتصار دبلوماسي حققه كيسنجر بعد قرن من الزمان، كان مدفوعا بنفس فكرة بسمارك، وذلك من خلال الانفتاح على الصين وفي الوقت نفسه سعيه ـ اي كيسنجرـ الى تحقيق الانفراج مع الاتحاد السوفياتي السابق، حيث أكد الاخير آنذاك أن واشنطن ستنتهي بعلاقات أفضل مع بكين وموسكو مما كانت عليه مع بعضهما البعض.

هل نجحت السياسية الخارجية الامريكية باتباعها العقيدة البسماركية؟ 

تركز العديد من النجاحات الأكثر بروزًا للسياسة الخارجية الأمريكية حول هذه الفكرة البسماركية، فعلى مدى عقود خلال الحرب الباردة، كانت علاقات الولايات المتحدة مع الكيان الصهيوني المؤقت والدول العربية، أفضل مما كانت عليه مع بعضها البعض.

اكثر من ذلك، استطاعت واشنطن سلخ الدول الشيوعية السابقة مثل يوغوسلافيا ورومانيا عن فلك موسكو. والأكثر اهمية انه على مدى عقود قبل الثورة الاسلامية الإيرانية، كانت علاقات امريكا مع إيران الشاه والمملكة العربية السعودية، أفضل مما كانت عليه مع بعضهما البعض. والكلام هنا، يعود لمسؤولين امريكيين.

ما النهج الذي سارت عليه السياسية الخارجية الحالية؟ 

ترى قيادات امريكية وازنة، ان واشنطن فقدت اليوم المرونة والليونة اللتين من شأنهما تحديد هذا النوع من الإستراتيجية (التي أرساها كيسنجر). فالسياسة الخارجية الامريكية، تتكون ـ وفقا لرؤيتهم ـ عادة من "تصريحات أخلاقية كبرى" تقسم العالم إلى أبيض وأسود، اي أصدقاء وأعداء. ليس هذا فحسب، إذ سرعان ما يتم تثبيت هذه البيانات بالعقوبات والتشريعات، مما يجعل السياسات أكثر صرامة، بحيث يصبح الجو السياسي مشحونًا لدرجة أنه بمجرد التحدث مع "عدو" يصبح الوضع محفوفًا بالمخاطر.

علاوة  على ذلك، برعت واشنطن بسياسة خلق الاعداء، وهو ما يظهر عبر وجود عدد كبير من الدول التي لا ترتبط بعلاقات مع الولايات المتحدة أو تنظر اليها واشنطن بعداء كبير مثل روسيا والصين وإيران وكوبا وفنزويلا وسوريا وميانمار وكوريا الشمالية. 

وعليه، فإن نقاط الضعف والاخفاقات برأي تلك القيادات أعلاه والتي تواجه صنّاع القرار الخارجي في امريكا، لا تتعلق بمعارضة أي من هذه البلدان بشكل فردي، لكن بالتأثير الجماعي الذي تتقصده امريكا، وهو يقوم على خلق سياسة خارجية صارمة، سياسة يكون فيها المسؤولون غير مستعدين للتحدث مع كل شخص في الغرفة، وغير قادرين بالتالي على إظهار المرونة المطلوبة. والطامة الكبرى ان هذه السياسة تستند إلى فكرة، أنه من الأفضل لامريكا ببساطة الإطاحة بهذه الأنظمة.

وتبعا لذلك، وعلى مدار السنوات الماضية، واجهت النخب في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، سيلا من الانتقادات اللاذعة الواسعة (من قبل دبلوماسيين سابقين كبار)، كونهم أفسدوا مكانة أمريكا أحادية القطب، نظرا لأن النهج الذي تم اتباعه لعقود، قام على سياسة خارجية، كانت في كثير من الأحيان عبارة عن تمرين على تقديم المطالب وإصدار التهديدات والإدانات، وبالتالي لم يُبذل سوى القليل من الجهد لفهم وجهات نظر الطرف الآخر أو التفاوض فعليًا.

اما الحالة الوحيدة في العقد الاخير التي حققت فيها السياسة الخارجية الامريكية، نجاحات لافتة، كانت في عهد إدارة الرئيس باراك أوباما، التي حاولت أن تسلك طريقا مختلفا عن اسلافها. لقد تفاوضت على الاتفاق النووي مع إيران، وكان من الممكن أن يؤدي إلى علاقة أكثر فاعلية معها لو لم يفسده ترامب. كما انها استطاعت رفع مستوى التعاون الاقتصادي مع الصين، وبدأت عملية تطبيع العلاقات مع كوبا، حتى أنها حاولت الحفاظ على علاقة عمل مستقرة مع روسيا.

هل غيّر بايدن نهج ترامب في السياسية الخارجية؟ 

في الحقيقة، تغير المناخ السياسي في واشنطن، مع فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية، حيث كان معاديًا إلى حد كبير لهذا النوع من دبلوماسية كيسنجر، فبمجرد دخول دونالد ترامب البيت الأبيض انسحب من الاتفاق النووي، وفرض رسومًا جمركية على الصين، وشدد العقوبات على كوبا، وحاول الإطاحة بالحكومة الفنزويلية. ومع ان أيا من هذه الجهود لم ينجح بكسر هذه البلدان بل عزز مكاناتها الدولية، لكن نهج ترامب راسخ الآن بقوة في مطابخ السياسة الخارجية للرئيس الحالي جو بايدن بحيث يصعب تغييرها، بالرغم من انه قام بحملة للتراجع عن العديد من هذه السياسات، ولكن ما إن تولى منصبه، وجد أنه من الأسهل سياسيًا أن يتماشى مع الخط المتشدد وابقى عليه. 

في المحصلة، ادى النهج السابق والحالي، للقائمين على السياسة الخارجية الامريكية، الى تشظي جسم الامبراطورية وجمودها في بعض الاحيان. فاليوم، تُدار هذه السياسية من قبل "نخبة منعزلة" تعمل عن طريق الكلام الخطابي لإرضاء الجماهير المحلية ويبدو أنها غير قادرة على الشعور بأن العالم يتغير وبسرعة.

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات