آراء وتحليلات
الإدارة الفعلية للأزمة.. بعيدًا عن التعاميم الوهمية
د. عدنان يعقوب – باحث في الشؤون الاقتصادية والإدارية والتربوية
مع بداية أزمة تشرين الأول 2019 أعلنت جمعيّة المصارف إقفال البنوك في ظل تهريب المليارات إلى الخارج، ترافق ذلك مع اداء حاكم المصرف المركزي الذي كان يطلق التعاميم بهدف رفع سعر صرف الليرة المتدهور مقابل الدولار، استمرت بعدها الفوضى النقدية والمالية التي غذّت ظروف الأزمة في ظل نظام تعدد أسعار الصرف الذي أفرز تحديات جسيمة على الاقتصاد. استمر التدهور السريع في قيمة الليرة اللبنانية، وأدَّت نتائج تغيّرات أسعار الصرف إلى قفزة كبيرة للتضخم حيث طالت التأثيرات التضخمية الفقراء والطبقة المتوسطة أكثر من غيرهم، وبوجه أعم من يعيشون على دخل ثابت أو معاش تقاعدي.
واستمر تضخم أسعار المواد الغذائية ليشكل قلقًا كبيرًا لأنه أخذ نسبة أكبر من نفقات الأسر الفقيرة التي تواجه مصاعب جمّة في تلبية احتياجاتها الأساسية في ظل تدهور قدرتها الشرائية، وزادت أسعار الغذاء وحدها بـ 500 % بين آب 2020 وآب 2021. في ذات الوقت، فقدت العملة الوطنيّة 90% من القيمة التي كانت عليها قبل الأزمة، واستمرت حينها البنوك في فرض قيود تعسفيّة اعتباطية على السحب نقدًا وارتفع معدل التضخم السنوي في لبنان من 84.9% عام 2020 الى 154.8%عام 2021 ثم إلى 171.21% عام 2022 ( إدارة الإحصاء المركزي).
في آب 2020 حصلت حادثة مرفأ بيروت، أعقبتها استقالة حكومة حسّان دياب، وفي ظل تباطؤ النمو الاقتصادي وانحسار التحويلات من الاغتراب اللبناني، نقصت كميّة الدولارات المتداولة الأمر الذي ترك تداعياته الغامضة على سعر صرف الدولار في السوق السوداء، دون أن ننسى تقلص الثقة باستقرار الليرة اللبنانية في 2019 والمخاوف حول استقرار القطاع المصرفي، حيث عمد بعض المودعين الى سحب الأموال من حساباتهم بالدولار، ما أدّى إلى انقطاع العملة الخضراء من السوق.
يظهر الجدول والرسم البياني 1 أنه سجل سعر صرف الدولار في السوق 8000 ليرة في أيلول 2020 ثم ارتفع إلى 8900 ليرة في تشرين الأول من العام نفسه ليصل الى 19100 ليرة في آب 2021. حدث ذلك في ظل اتّخاذ مصرف لبنان قرارا برفع الدعم 50% عن السلع كافّة. ومع إصدار التعميم 158 وبداية منصّة "صيرفة" عاد سعر الصرف إلى الهبوط في ايلول الى 17070 ليرة بعد صدور مرسوم تكليف نجيب ميقاتي بتشكيل الحكومة في آب 2021. في كانون الأول 2021، أصدر مصرف لبنان:
- التعميم 601 الذي رفع قيمة الدولار المصرفي من 3900 ليرة إلى 8000 ليرة لبنانية.
- التعميم 161، الذي سمح للموظفين بالحصول على رواتبهم بالدولار وفق سعر منصّة صرافة.
أحدث التعميم صدمة إيجابية لدى الموظفين والمودعين، فشهدت المصارف حينها والصرّافات الآلية طوابير من المواطنين بهدف الحصول على الدولارات. حيث كان يؤمل أن تضبط الدولارات في أيدي الموظفين الكتلة النقديّة اللبنانيّة في السوق، لكن الدولار عاد وارتفع الى 38600 ليرة في أيلول 2022، ما استدعى من مصرف لبنان إصدار قرارات لاحقة بالتعميم 161 فتحت المجال أمام المواطنين بجميع فئاتهم لاستبدال مبالغ بالليرة اللبنانية بأخرى بالدولار الأميركي من المصارف، وسقوف عالية جداً، على أساس سعر منصة صيرفة وذلك بعد التقدم بطلبات إلى المصارف أدت الى تراجع الدولار الى 35700 ليرة في تشرين الأول 2022 لكن مهما بلغت تراجعاته المؤقتة، تبقى النتيجة الثابتة أنه سجّل ارتفاعاً بنسبة فاقت 65%، من تشرين الثاني 2021 وحتى تشرين الثاني 2022.
وواصل الدولار بعد ذلك ارتفاعه إلى 64000 ليرة في 26 كانون الثاني 2023 وارتفع في أواخر شهر شباط الى 88000 الأمر الذي أثر بشكل كبير على أسعار المحروقات والمواد الغذائية والسلع التي أصبحت تسعّر بالدولار الأميركي في السوبرماركت. حدث ذلك في ظل قيام مصرف لبنان المركزي بالعمل على سعر 15000 ليرة مقابل الدولار ابتداء من الأول من شباط 2023، وأصبحت التعميمات 151 و 158 على سعر15000 بدل 8000 ليرة. ليسجل بعدها الدولار الأربعاء 1 آذار عتبة الـ 92000 ليرة، في مشهد غير مسبوق في تاريخ البلاد ترافق مع دخول البلاد مرحلة الدولرة شبه الشاملة، لكنه ما لبث أن انخفض بشدة إلى أقل من 80000 ليرة بعد تعميم أصدره المصرف المركزي يفيد بتدخله في السوق شارياً للدولار وإصداره إجراءات بناءً على المادتين 75 و 83 من قانون النقد والتسليف، وهي التدخل بائعاً الدولار النقدي وشارياً الليرة اللبنانية النقدية على سعر 70 ألف ليرة للدولار، انخفض إثرها سعر الدولار فى السوق السوداء إلى أقل من 80 ألف ليرة ابتداء من الخميس 2 آذار 2023. حيث سجل التداول ضمن هامش 79143 ليرة للشراء و 79786 ليرة للمبيع.( مع العلم أن سعر صيرفة سينعكس مضاعفة لفواتير الكهرباء والاتصالات).
في النتيجة:
إن تحديد سبب أي أزمة ومعرفة حدودها ووقت حدوثها ومن المستفيد أو المتضرر منها وكيفية التعامل معها لمعرفة الأسباب المباشرة وغير المباشرة لها والتعامل معها بشكل حقيقي ضرورة حتمية، لأن لبنان أصبح معتادًا مؤخرًا على حركة صعود ونزول الدولار بلا هوادة، وغالباً ما كان ينجح الانخفاض الوهمي بجمع أكبر كتلة دولارية من خلال شراء الصيارفة على سعر مرتفع ليعود المصرف المركزي ويضخ على سعر صيرفة. في المحصلة كان لا بد من معرفة الأسباب المباشرة لتدهور الليرة بشكل متسارع والتي تمثلت بـ:
- ارتفاع حجم الاستيراد من قبل التجار، لا سيما قبل إقرار الدولار الجمركي، واستمرار ضخ كميات هائلة من الليرة في السوق لتغطية زيادات رواتب القطاع العام من جهة، وشراء الدولارات من قبل مصرف لبنان من جهة ثانية.
- عمليات المضاربة المستمرة على العملة وهي عمليات مستمرة طالما ساهمت بارتفاع كبير في سعر الصرف وانخفاضه المفاجئ.
- تخاذل السلطات في صياغة أي حلول ذات جدوى للجم التدهور الحاصل في ظل الفراغ السياسي على مستوى الرئاسة والحكومة، وترك السوق رهينة التجار والمضاربين، الذين يتناقشون الليرة اللبنانية على وقع قرارات مصرف لبنان وتعميماته.
من هنا فإن وضع الحلول موضع التنفيذ يعتبر من أصعب الخطوات وأخطرها وهي التي سيتم مقاومتها ومحاربتها لأن التغيير نحو الأفضل قد يكون صعبًا ومؤلمًا، وهنا يلزم:
1. إعادة تكوين سلطة وفريق عمل يتمتع بمهارات التغيير بمحاسبة من امتهن الفساد الاداري والمالي والتخلى عنه واستبداله بافراد تعمل لصالح الدولة والمجتمع والفئات المهمشة.
2. محاسبة محتكري موارد الدولة وأصولها لمصلحتهم الشخصية.
3. إعادة تفعيل الدور الأساسي للمصارف والمؤسسات المالية في دعم القطاعات الانتاجية وليس فقط تمويل الدولة.
4. ضمان جودة وإعادة النظر ببرامج التعليم العام الجامعي والفني والتقني وإدارة المشاريع في المناهج الدراسية منذ المراحل الأولى.
من هنا يتوجب على الدولة اللبنانية ادارة التغيير وحل الأزمة بشكل فعلي وحقيقي وليس وهميا في ظل القانون والنظام والعدالة الاجتماعية عبر تشكيل فريق طوارئ من مختلف اللبنانيين والمضي قدماً وبشكل عاجل باعتماد خطة لتحقيق الاستقرار والتعافي المالي الكلي، لصالح الأكثرية الصامتة على حساب الأقلية التى تتمتع بمكاسب كبيرة مستمرة منذ عقود وتسريع وتيرة تنفيذها لكي نتفادى الدمار الكامل لشبكتنا الاجتماعية والاقتصادية في ظل ضغوطات ولا مبالاة المجتمع الدولي.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024