آراء وتحليلات
ثمن الهروب.. وشروط اللعبة الأميركية
أحمد فؤاد
"فردوس الأغنياء مصنوع من جحيم الفقراء" - فيكتور هوغو
الأزمة العربية الحالية هي أجدر مناسبة تستدعي إلى الذاكرة المنهكة أحد وجوه المأزق في هذه الأمة ولدى شعوبها، وهي أن القيادات التاريخية شحيحة، والنماذج القادرة على الفعل المتحملة لعواقب الحركة وضرورات المواجهة قلّة نادرة، وأن الزعامات التي تستطيع رسم صورة كاملة وشاملة -وصحيحة- للوقوف في وجه الطوفان غائبة.
استثناء شبه وحيد يطل قمرًا في الجنوب في ليل حالك شديد البؤس، الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله الذي وضع قبل أيام قليلة تصوره للأحداث التي تمزق الأمة العربية وتكاد تفتك بشعوبها وتعصف بكل أمل في مستقبل، أي مستقبل، خلال خطابه في 16 شباط الماضي، لمناسبة ذكرى القادة الشهداء، وهو خطاب يتوجب أن تعاد قراءته، في ظل التطورات العاصفة التي تمر بها كل الدول العربية، دون استثناء ولا رحمة، والمدى الذي وصلت له الولايات المتحدة في حربها المعلنة على محور المقاومة، وعلى المنطقة برمتها.
لخص سماحة السيد رؤيته للفصل الحالي من الاستهداف الأميركي للمنطقة، لدولها وشعوبها، من يدخل ضمن محور المقاومة ومن يعاديها، وحتى من يصادقها، الكل أمام نفس الخيارات المرة، من تراجع وانهيار وإفلاس، فقر وعجز وضغط بالغ القسوة على القلوب والأعصاب، موجات متتالية من الآلام والأوجاع المركزة، ومناخ تشاؤم وهروب ويأس كامل، سموم أدخلت إلى الجسد المنهك خلسة، وفي لحظة تتسلل إلى الأعصاب فتصعقها، صيحات بؤس وأنات حاجات إنسانية بسيطة لا تجد أي صدى حكومي ولا رسمي، وباختصار فقد أجمل السيد واقع لبنان وغيره في جملة بسيطة: "لبنان لم يحتج إلى قانون قيصر ولا إلى قانون عقوبات للأسف الشديد، الأمر المحزن جدًا يكفي أن ترفع السفيرة الأميركية الحالية أو الآتية حاجبيها بالرفض حتى ينتهي الأمر، هذا ما علاقته بالسيادة والقرار المستقل وبالوطنية وبالإنسانية وبالشخصية وبالرجولة وبالشهامة".
وجاءت الحوادث مصداقًا لما حذر منه سماحة السيد، وانطبقت رؤيته على أزمتنا العاكسة لخياراتنا ونقاط ضعفنا والتردد الشديد في الاعتراف بالخطايا، كبداية لأزمة لرسم سيناريو جديد للمستقبل، بكل ما يحمله هذا الخيار من أثمان باهظة توجب أن تبذل، أما أي طريق آخر فإنه لا يعني سوى استمرار النزيف الوطني والقومي مجانًا، وتفريطًا في المزيد والمزيد من الموارد التي كادت تجف، ثم هي المهلكة الحتمية تنتظر في نهاية هذا التيه.
في سوريا التي ضربها زلزال مفاجئ، وتفرض على رقبتها أسوأ ترسانات قوانين الحصار الأميركي الشامل، بدأت الأوجاع الجديدة ممزوجة بالخسائر السابقة لقانون "قيصر" والمعاناة المستمرة مع الحرب الشاملة على دمشق، في صبغ وجوه السوريين بالإنهاك ورسم إمارات العجز على الوجوه والشفاه، والحديث عن أن النظام العربي الرسمي قد يتحرك أخيرًا لنجدة سوريا، التي طالما مدت أيديها للجميع، تبخر تاركًا إحساس الحسرة وآلام طعنة الخيانة الغادرة وطعم الخذلان المر.
وفي لبنان، الذي يعد قلب الإستراتيجية الأميركية لنشر الفوضى وصولًا إلى تفعيل خلطة الدمار الذاتي للمجتمعات، وتفجيرها من الداخل، بعد أن عجزت واشنطن وقبلها "تل أبيب" عن تحقيق أي اختراق على أي مستوى لحزب الله، بدأت أصابع الشيطان الأميركي في استغلال الثغرات والخاصرة الضعيفة للبلد في الدفع نحو أزمة اقتصادية معيشية غير مسبوقة برفع الدولار الجمركي ثلاثة أضعاف من 15 ألفًا إلى 45 ألفًا، وانعكاس ذلك فورًا على المواطن، وخصم المزيد من قدراته على الاستمرار في خضم هذه المعاناة، مع وصول نسب التضخم –بالأصل- إلى حدود غير مسبوقة.
بالتوازي مع قرار رفع الدولار الجمركي، صدر قرار أخطر وأعمق وأكثر إجمالًا للصورة الكلية البائسة، وهو قرار التسعير بالدولار في السوق المحلية، وهذا القرار -بعيدًا عن أي أثر اقتصادي- هو بمثابة إعلان وفاة للعملة المحلية، وتدمير لكل معاني السيادة الوطنية داخل البلد، إنه يساوي صك اعتراف بالتسليم الكامل للإرادة الأميركية ممثلة في ورقتها النقدية الخضراء، ومؤشرًا رسميًا خطيرًا على بلوغ العملة المحلية نقطة اللاقيمة، بعد أن فقدت فعلًا وواقعًا أكثر من 95% من قيمتها.
أما الحدث الأبرز والأكثر تعبيرًا، فقد جاء من مصر، التي تعد منذ عهد السادات، دولة –بالأدق محمية- تدور في الفلك الأميركي، ولا تجرؤ نخبتها المتغربنة قبل حكومتها المستسلمة على أن تتخيل طريقًا يناقض ما تراه واشنطن وما تريده، حتى قبل أن تريده، إذ صدرت قرارات اقتصادية جديدة تحت لائحة ما يقول النظام إنه "إصلاح اقتصادي"، عصفت بآخر حجب الستر عن فئة أوسع مع المصريين، ودفعت بالناس إلى حالة من الذهول والانشداه أمام كل ما يجري، فلا تخرج الأحاديث سوى سواد واكتئاب ويأس، وتحسب من قادم أسوأ يدمي القلوب.
القرارات الحكومية المصرية المتتالية بخفض قيمة الجنيه أمام الدولار الأميركي أدت إلى تراجع قيمته 42% خلال أقل من عام واحد، وتقارير بنوك الاستثمار ومؤسسات التمويل الدولية تدفع نحو المزيد من الخفض، بنك سوسيتيه جنرال على سبيل المثال توقع وصول الدولار إلى مستوى 37 جنيهًا مع نهاية العام الحالي 2023، وهو ما يعني خفضًا جديدًا بنسبة 23%.
تُبرز الأزمة المصرية المطامع الحقيقية للشيطان الأميركي، وطرقه عديمة الرحمة والضمير التي يذهب إليها لتحصيل ما يخطط أو يريد، لا يريد الأميركي أن يواجه احتمال أن دولة قد تخرج من عباءته وبيت طاعته، وبالتالي فهو يشدد الخناق بشكل دائب ومستمر على الرقاب، ويتبع الإستراتيجيات ذاتها التي جربها ونجحت، من السيطرة الجماعية على العقول إلى التلاعب بالجمهور المنهك واللاهث خلف أي أمل، مهما كان وهمًا كاذبًا، إلى استدعاء أبواق الفتنة وغربان الخراب، والتهديد المعلن كالسيف فوق الرؤوس بإن الحل الوحيد للنجاة هو المزيد من الخضوع والذل والتسليم الكامل بالقدر الأميركي المكتوب.
ما تكشفه الأزمة العميقة في مصر، هي أن طرح سماحة السيد لمعادلته الأسطورية أمام الشيطان الأكبر "على الأميركيين أن يعلموا إنه إذا دفعوا لبنان إلى الفوضى، وتألم الشعب اللبناني فهذا يعني أننا لن نجلس ونتفرج على الفوضى، وسنمد يدنا إلى من يؤلمكم، حتى لو أدى ذلك الى خيار الحرب مع ربيبتكم في كيان العدو"، كان الرد الكامل والأوفى والإجابة الوحيدة الصحيحة على المخطط الأميركي القائم. لم يستدع السيد الحل وفقًا لشروط اللعبة الأميركية القائمة، وإنما عبّر فوق كل المخطط ليقبض على قلب الأزمة ويضع يده على مفتاح الحل، فحتى من استسلم وهان وفرط في كل شيء قد وضعه الأميركي في قائمة المعاناة والألم، وربما على أول حافة النهاية.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024