معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

هل يتكرر "شتاء السخطّ" ببريطانيا؟
07/02/2023

هل يتكرر "شتاء السخطّ" ببريطانيا؟

د. علي دربج - باحث وأستاذ جامعي

بالنسبة للكثيرين في بريطانيا، يبدو أن الحياة تعود إلى أيام السبعينيات المظلمة. فارتفاع الأسعار في تصاعد مستمر وهو يسجل أرقامًا قياسية، كذلك الأوضاع المعيشية التي تتفاقم يومًا بعد يوم، وباتت تنعكس سلبًا على المواطنين الذين يضطرون حتى الى تقنين الطعام، والخلود مبكرًا إلى النوم توفيرًا لاستهلاك طاقة التدفئة، هذا فضلًا عن أن لندن هي العاصمة الوحيدة في مجموعة الدول السبع الاقتصادية المتقدمة التي من المتوقع أن تشهد ركودًا وفقًا لصندوق النقد الدولي.
 
وما زاد الطين بلة هو سلسلة الاضرابات العمالية التي تواجها لندن من حين لآخر، وكان آخرها أكبر إضراب للعاملين في مجال الصحة على الإطلاق، مع خروج عشرات الآلاف من الممرضات (وجدت دراسة أجريت على أكثر من 1000 ممرضة أن واحدة من كل خمس ممرضات، قد استخدمت بنوك الطعام وأن ثلثيها كان عليها الاختيار بين الطعام والوقود) وعمال الإسعاف في أعقاب نزاع متصاعد بشأن الأجور. وكان سبق ذلك اضراب لما يقرب من نصف مليون عامل في 1 شباط الجاري، أوقفوا خلاله معظم خدمات القطارات في إنجلترا، وأغلقوا آلاف المدارس احتجاجًا على تدني أجورهم وأحوالهم المزرية.
 
 لكن ما يجدر معرفته أن هذه الموجة من عدم اليقين والاضطراب الاقتصادي الذي تعاني منه بريطانيا وما تلاها من تحركات عمالية، ذكّرت الكثيرين بـ "شتاء السخط"، وهي فترة متقلبة، والانطباع عنها سيئ لدى البريطانيين، كانت حدثت في نهاية سبعينيات القرن الماضي.

ما هي قصة "شتاء السخط" في بريطانيا؟

تشير هذه العبارة، المأخوذة من السطر الأول من مسرحية ويليام شكسبير إلى تصاعد الإضرابات في شتاء 1978-79، الذي ساعد في إسقاط حكومة حزب العمال الحاكم آنذاك.
فبين نوفمبر/ تشرين الاول 1978 ، ومارس/ اذار 1979، شهدت بريطانيا موجة الإضرابات الأكثر انتشارا -  شملت حفاري القبور، وعمال النظافة في المستشفيات، وسائقي الشاحنات وعمال كافتيريا المدارس والطيارين والمطابع - منذ الإضراب العام عام 1926. ونتيجة لذلك طمرت النفايات الشوارع، وبقيت جثث الموتى دون دفن، فيما غمرت الثلوج الطرقات بعد امتناع العمال عن ازالتها.

اللافت أن هذه الأحداث أدت الى مجيء حكومة جديدة (محافظة) برئاسة مارجريت تاتشر التي اختارت لحظتها المناسبة، للدخول في مواجهة مع "الاتحاد الوطني" لعمال المناجم في 1984-1985. وبالتالي تمكنت في نهاية المطاف من سحقهم، بحيث عاد عمال المناجم إلى العمل مهزومين، مما شكل تحولًا طويل الأمد في ميزان القوى بين العمال وأرباب العمل، كانت أبرز انعكاساته السلبية تأجيج الموقف الشعبي الساخط تجاه النقابات العمالية، وتسريع الانهيار في عضويتها.
 
وهل يكرر عمال بريطانيا "شتاء السخط" اليوم؟

هناك اختلافات كبيرة بين شتاء السخط قبل 43 عامًا، والشتاء الذي تعيشه بريطانيا اليوم، على مستوى قوة العمال وفعالية تحركاتهم، بالرغم من التشابه في الأوضاع الاقتصادية. ففي سبعينيات القرن الماضي كانت النقابات البريطانية تعتبر بمثابة وحوش قوية للغاية. أما اليوم، فقد انخفضت العضوية فيها إلى النصف، وإلى أقل من 10  بالمائة في بعض القطاعات الصناعات الرئيسية، وهذا بدوره سلبهم القدرة والفعل وحتى إرادة نشر الفوضى، كتلك التي حدثت في شتاء السخط الأصلي.

من هنا، فإن هذا التراجع في قوة النقابات العمالية، حدّ من تحركات العمال، وجعلها غير مجدية. وتعليقًا على ذلك، كتب المؤرخ سيمون هيفر في صحيفة "تلغراف" اللندنية أن "الإضرابات لا تجدي الآن"، وأضاف "سوف تجد النقابات المنكمشة قبل فترة طويلة، أن خوض معارك القرن الحادي والعشرين بأسلحة القرن التاسع عشر لن ينجح ببساطة".

ليس هذا فحسب، حاولت الحكومة البريطانية حتى الآن تكرار انتصار مارجريت تاتشر على النقابات. ففي الصيف الماضي، عندما بدأت الإضرابات تعطل الحياة البريطانية، كتب غرانت شابس، وزير الأعمال البريطاني، على "تويتر": "يجب أن نجعل أباطرة النقابات يفكرون مرتين قبل استخدام سلاح الاضراب، واستكمال ما لم تنجزه تاتشر". ولهذه الغاية، قدم رئيس الوزراء ريشي سوناك في وقت لاحق تشريعًا جديدًا "لمكافحة الإضراب"، هدفه قطع الطريق على أي إجراء قد يقدم عليه العمال مستقبلًا.
 لكن الأكثر أهمية، هو أنه خلال شتاء "السخط الأصلي"، فقد الجمهور تعاطفه مع العمال. أما اليوم فهناك القليل من الدلائل تؤكد حدوث ذلك هذه المرة. إذ أظهر استطلاع  كانت أجرته  YouGov "يوجوف" (شركة دولية على الإنترنت مختصة بأبحاث الأسواق مقرها لندن) وقناة Sky News الأسبوع الماضي، أن الدعم البريطاني للنقابات قد ارتفع بنقطتين مئويتين، حيث وصلت النسبة إلى حوالي 37 بالمائة، بينما كانت المعارضة للعمال تتراجع. وكان 34 بالمائة من البريطانيين قد صرّحوا في تشرين الأول الماضي أن تأثير النقابات كان سلبيًا، ثم ما لبثت أن انخفضت هذه النسبة في كانون الثاني الفائت إلى 28  بالمائة.

ما هي الأسباب الأخرى للإضرابات غير الأجور؟

لا تتعلق الإضرابات بالأجور فقط، بل بمسائل أكبر كالعدالة الاقتصادية والشرعية السياسية. وتبعًا لذلك وجد استطلاع آخر أجرته مؤسسة "يوجوف" أن هناك "علاقة قوية للغاية بين دعم الإضرابات، وما إذا كان ينظر إلى المهنة على أنها تقدم مساهمة للبلاد". ولهذ السبب ابدى الكثير من البريطانيين تعاطفهم بشكل خاص مع مشكلة الممرضات وموظفي الإسعاف الذين يدعمون هيئة الخدمات الصحية الوطنية المحبوبة في بريطانيا، بعدما أدت سنوات من نقص التمويل إلى أزمة واضحة للغاية.

ومع أنه تمت إدانة رؤساء النقابات ذات مرة في بريطانيا باعتبارهم بيروقراطيين جشعين وغير منتخبين، إلا أن حكومة سوناك تعاني من مشاكل ترتبط بمصداقيتها الديمقراطية، فضلًا عن أن رئيس الوزراء البريطاني لم يفز أبدًا في انتخابات وطنية لشغل هذا الدور، على الرغم من حقيقة أن حزبه السياسي حاز على نسب متدنية جدًا في استطلاعات الرأي.

أما ما يثير سخط العمال البريطانيين أن سوناك نفسه يتمتع بثروة شخصية هائلة، إذ تقدر ثروته بنحو 830 مليون دولار، وبالتالي، فإن هذا بنظرهم يجعل من الصعب عليه المجادلة بأن الممرضة لا ينبغي أن تحصل على زيادة كبيرة في الأجور، فضلًا عن أن زملاء رئيس الحكومة في السلطة، يزيدون الأمر سوءًا.

ونتيجة لسلوك الحكومة المتخبط، تدهورت حياة البريطانيين أكثر فأكثر، فالأجور الحقيقية في المملكة المتحدة أقل مما كانت عليه قبل 18 عامًا. كما أن فواتير الطاقة، ارتفعت بنسبة 80 بالمائة العام الماضي - ومن المقرر أن ترتفع مرة أخرى، فيما يكافح ربع البالغين الآن للتدفئة في غرف المعيشة الخاصة بهم.

أكثر من ذلك، بلغ تضخم أسعار الغذاء أكثر من 13 بالمائة، في حين قال ما يقرب من ثلثي سكان المناطق الأكثر حرمانًا في البلاد إنهم يشترون كميات أقل من الطعام،  بينما أكد ربعهم تقريبًا في جميع أنحاء بريطانيا أنهم إما تخطوا وجبة، أو تناولوا كميات أقل من الطعام، لأنهم لا يستطيعون تحمل تكاليف الطعام. المفاجأة أن واحدًا من كل خمسة أشخاص، تتم إحالتهم إلى بنوك الطعام هم من أسر يعمل فيها شخص ما.

في المحصلة، يرى المراقبون في لندن أن الدروس المستفادة من "شتاء السخط" الأصلي ليست سلبيّة كلها. فلكي يصبح العمال المضربون أكثر فاعلية، قد يضطرون إلى المخاطرة بأن يصبحوا أقل شعبية، وبالتالي إن بقيت الأمور دون معالجة فليس من المستبعد أن تتكرر الأيام السوداء على البريطانيين، ويعشيوا مجددًا شتاء السخط الذين ظنوا للحظة أنه لن يعود أبدًا.

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات