آراء وتحليلات
من "أغلهوك" الى "أوغوساغو": مالي في مهب الصراع المزدوج
محمد محمود مرتضى
رغم أن الصراع القبلي الدائر في شمال مالي قد اشتعل منذ العام 2012، الا أن ما حدث في الثالث والعشرين من شهر اذار/مارس الماضي سيشكل علامة فارقة. فقد استيقظ الماليُّون على مجزرة راح ضحيتها مائة وستة وخمسون شخصاً من قبيلة "الفولاني" (أو الفلان) في قرية "اوغوساغو" قرب مدينة موبتي في وسط مالي. وقد سارعت معظم الجهات، بما فيها "الفولاني"، الى اتهام قبيلة "الدوغون" بأنها تقف وراءها.
ورغم أن ما حصل في "أغلهوك" عام 2012، كان مشابها لما وقع في "اوغوساغو" لناحية عدد الذين سقطوا، الا أن الاولى كان ضحاياها من الجنود الذين باغتتهم مجموعات انفصاليَّة ووصل عددهم الى مائة وخمسين جنديًّا، الا أن الحادثة الاخيرة كان ضحاياها من المدنيين.
ليس الصراع القبلي ـ الاثني متجذراً في مالي، فقد عاشت هذه القبائل مع بعضها البعض لفترات طويلة دون أي تهديد ومعظمهم يمتهنون الزراعة والعمل في الحقول ولا يقتصر هذا العمل على قبائل الدوغون؛ اذ يقطنها ايضا قبائل البامبارا والسوننكي والصونغاي وغيرهم ممن يمتهنون نفس العمل.
لكن بالمقابل تمتهن قبيلة "الفلان" رعي الأغنام والأبقار وفي بعض الاحيان الإبل، ما يجعلهم يسيطرون على مواد اللحوم والحليب. والقبيلة بالاصل من الرحل نتيجة طبيعة عملهم، ما يجعلهم ينتشرون في بلدان عديدة لا تقتصر على مالي، بل تصل الى موريتانيا والسنغال والنيجر والكاميرون. وقد ساهم هذا التنوع في المهن في تثبيت نوع من التوازن بسبب حاجة كل قبيلة الى الاخرى.
الا أن هذا الاستقرار اخذ بالتآكل لأسباب اقتصادية في البداية على الاقل، حيث بدأت قطعان ماشية قبيلة "الفلان" تدخل حقول القبائل الاخرى غير المسيجة بطبيعة الحال، ما دعا تلك القبائل لمطاردة اصحاب الماشية والاجهاز عليهم. على ان استهداف قبيلة "الفلان" في مالي ليست الحادثة الاولى من نوعها، فقد استهدفت في بوركينا فاسو وفي نيجيريا، والتشاد وغيرها من الدول في الغرب الافريقي.
وفي العودة الى مجزرة "اوغوساغو"، فمنذ اربع سنوات وقبيلة الدوغون تشكو من تصرفات "الفلان"، وتقوم بطلب المساعدة من السلطات دون أن تلقى آذانا صاغية، ما دفعها للاستعانة بالصيادين التقليديين الذين يستهدفون الحيوانات، ثم تطورت الامور حيث نظموا انفسهم، وحملوا سلاحاً دفاعا عن حقولهم.
قد تبدو القضية الى هنا على أنها قضية ذات بعد اقتصادي بحت، تقف فيها "الدوغون" موقف المدافع عن نفسها ورزقها. الا أن القضية وان بدأت بهذا الشكل، لكن ليس بالضرورة ان تلك هي كل الاسباب.
بالعودة الى تسعينيات القرن الماضي، وتحديدا الى الجزائر، فقد ادى وصول جبهة الانقاذ الاسلامية الى الحكم الى دخول البلاد في ما يشبه الحرب الاهلية والتي اطلق عليها اسم العشرية السوداء (1992-2002). ومع هزيمة جبهة الانقاذ وما تفرع عنها من تنظيم القاعدة، اتجه المقاتلون نحو الجنوب، حيث تقع مالي وتحديدا الى مدينتي تومبوكتو وغاوو، مضافا اليها هجرة مقاتلين ماليين كانوا في ليبيا، وقد قامت هذه الجماعات بعد السيطرة على تومبوكتو وغاوو بالمطالبة باستقلال شمال مالي وهو ما عرف بأزمة اقليم ازواد.
لم تمارس المجموعات "الجهادية" هناك عمليات اقصاء وفرض الشريعة بقدر ما حاولت اختراق النظام القبلي، فتقربت من قبيلة "الفلان" وادخلتها في معركتها بدعوى انهم الاقرب لطروحات التنظيم.
بعد دخول الجيش الفرنسي الى مالي عام 2013 والتضييق على تنظيم القاعدة، اضطر التنظيم وتحت الضغط العسكري للانسحاب الى وسط مالي، حيث كان "امادو كوفا" قد أسس "جبهة تحرير ماسينا" وهو من قبيلة "الفولانيين" من مواليد "موبتي"، وقد بدأ حياته الدعوية مع جماعة التبليغ، وربطته علاقة مع "اياد غالي" تحولت الى تحالف جماعة "انصار الدين" التي يتزعمها "غالي". وقد قاد غالي تحالفا جديدا ضم كافة الجماعات المسلحة في الشمال والوسط والمعروف بـ "تنظيم أنصار الإسلام والمسلمين"، والذي أعلن عنه في العام 2017.
عمد زعيم جبهة تحرير ماسينا آمادو كوفا الى استعمال خطابين للاستقطاب؛ خطاب إسلامي يرتكز على اعادة "امجاد الفلان" وماضيهم الإسلامي في المنطقة، ودورهم في الجهاد ونشر الإسلام، وخطاب عرقي قبلي موجّه بالخصوص "للفلانيين" ممن لا يحملون فكر الجماعات المسلحة.
وفي المقابل، فإن قبائل "الدوغون" قاموا بتأسيس ميليشيات مسلحة سموها "دانا أما سونغو"، وهي عبارة عن مجموعة من الصيادين يقومون بدوريات على القرى والمدن لحمايتها بسبب عجز الدولة عن مواجهة الجماعات الإرهابيين. وقد قامت هذه المليشيات بنشر خطاب قبلي عرقي يرتكز على مفهوم حماية القبيلة، وأن "الفلان" أعداؤهم بسبب علاقتهم مع "الإرهابيين". وقد أدى هذا الاتهام الى تنفيذ هجمات وسرقة لمواشي "الفلان" او من يقوم بإيوائهم، ثمَّ تصاعدت حدة الصراع بين القبيلتين.
صحيح أن بعض "الفلانيين" قد انخرطوا مع تنظيم القاعدة ومسمياته المختلفة، الا انه من الصحيح ايضا ان بعض الفلانيين قد ترقوا في السلطة ووصلوا الى مراتب عليا في بلدان مختلفة ومنهم الرئيس السنغالي الحالي ورئيس غامبيا وغيرهما، اضافة الى أن معظم "الفلانيين" يتبعون المذهب المالكي وهو بعيد عن فكر التنظيمات الارهابية التي بغالبيتها ان لم يكن كلها على المذهب الحنبلي من الناحية الفقهية..
ورغم عدم التحقيق او على الاقل عدم خروج التحقيق بنتائج تحدد الجهة التي قامت بمجزرة "اوغوساغو"، فان المسارعة الى توجيه الاتهام الى قبيلة "الدوغون" تشوبها الشبهة، لا سيما وان الصراع القبلي قد ازداد منذ العام 2013 أي منذ دخول القوات الفرنسية الى مالي. على ان اتهام الدوغونيين يرتكز على رواية تتحدث عن تسرب معلومات الى الدوغونيين بان ثمة "ارهابيين" في الحي "الفلاني" ومن بينهم المطلوب "سيكو باري" فانقض مسلحون على الحي وقتلوا من قتلوا ومن بينهم "باري" المطلوب.
ومهما يكن من أمر، فمن الواضح ان الصراع في مالي تحول الى صراع مزدوج، قبلي ـ ديني، وهذا ما قد يزيد في شراسته، دون ان ننسى ان بعض المستعمرين يتأبطون شرا بالبلاد طمعا بثرواتها، ولن يكون الفرنسي، بأي حال من الاحوال، بعيدا عن هذا الصراع، وصب الزيت على ناره المشتعلة.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024